اسدل الستار رسمياحول قضية حياة الدكتورة بان زياد طارق اخصائية الأمراض العقلية في البصرة في العراق وقد انتهى التقرير الطبي ومحكمة استئناف البصرة الى أن الدكتورة قد انتحرت واغلقت قضيتها رسميا بعد تأكيد مجلس القضاء الأعلى اسباب نهايتها.
اما مجتمعيا فأن القضية لم تنتهي بل بدأت موجة جديدة من الأحتجاج للكشف عن الأسباب الحقيقة وراء انهاء حياة الدكتورة بل اشتدت المطالبات إلى حد إجراء تحقيق دولي للكشف عن اسباب الجريمة ومعاقبة مرتكبيها بسبب انعدام ثقة المواطن بالنظام السياسي وجزعه.
لماذا تلك الهوة بين ما هو رسمي وشعبي ولماذا عدم الثقة بالسلطات المحلية بل واعتبارها متواطئة في انهاء حياة الدكتورة وكذلك عدم الثقة في القضاء العراقي في الكثير من جوانب أدائه. عندما يفقد النظام السياسي ومؤسساته الشرعية الشعبية سواء عبر الأنتخابات او الممارسات اليومية يصبح النظام في موقع الشك في الجزء الأعظم من إجراءاته الأنتقائية التي لا تستهدف الكشف عن الحقائق بل للتوظيف في خدمة أجندة مختلفة.
كثيرة هي التفاصيل التي تضعف بل تفقد ثقة المجتمع بالأجهزة الأمنية والقضائية والتشريعية وكل المنظومة الحاكمة والتي تقف في مقدمتها هو المحاصصة في كل أجهزة الدولة والتي تضعف من نزاهتها ومصداقيتها وخاصة في القضايا المصيرية فالفساد الأداري والمالي والمهني افقد أجهزة الدولة شفافيتها.
لا نتحدث عن الخراب في القيم الأجتماعية والتركة الثقيلة للحروب الداخلية من قمع واضطهاد وتصفيات جسدية والخارجية ايضا قبل عام 2003 التي مزقت النسيج الأجتماعي ثم ما بعد احتلال العراق من قبل أمريكا والتأسيس لحروب الأقتتال الداخلي على الهوية الطائفية والأثنية وشيوع الجرائم الفردية منها والمنظمة ونهب المال العام والخاص وانتشار العصابات المسلحة إلى جانب عمليات القتل النوعي للكوادر في مختلف الأختصاصات والتي شملت الأطباء على نطاق واسع وعدم حل أزمة الحكم تحول المجتمع إلى أرض خصبة لكل مظاهر التردي والانحراف وفي ظل غياب أجهزة الردع وضعف تطبيق القانون اشتد ساعد العشائر في قضايا الفصل ليحل محل القضاء في الكثير من القضايا فغاب جراء ذلك البعد الأنساني في معالجة الأزمات والتأسيس لدولة القانون.
التطور السريع في أرقام الجريمة في العراق والتحول المشهود في طبيعتها نحو مزيد من القسوة والفظاعة ووقوع الجرائم بشكل متزايد في نطاق الأسرة الواحدة والمجتع عموما، يعدّ انعكاسا لظروف أمنية واقتصادية واجتماعية أوجدتها تجربة الحكم الفاشلة في البلاد وأفضت إلى تحولات أخلاقية ونفسية باتت تهدد تماسك المجتمع العراقي ووحدته. اما في الجرائم السياسية الأجتماعية فيكفي الأشارة هنا انه في العام 2019 عندما اندلعت الأحتجاجات المطلبية تم اغتيال اكثر من 700 ناشط وأعاقة اكثر من 25 ألف مواطنا وقد لصقت هذه الجرائم برقبة “قاتل مجهول” أو “طرف ثالث” فلا نستغرب من ان يصنف العراق في المرتبة الثامنة عالميًا والثانية آسيوياً بمستوى الجريمة المنظمة، وفقاً لتقرير مؤشر الجريمة المنظمة العالمي لعام 2023. كما احتل المرتبة الثامنة عربياً والثمانين عالمياً في مؤشر الجريمة العام للعام 2024، وفقاً لموقع “نامبيو”.
اما بالنسبة للأنتحار فقد شهد العراق منذ سنوات تزايدًا ملحوظًا في تسجيل معدلات الانتحار ومحاولات إنهاء الحياة، في ظاهرة كانت نادرة الحدوث فيما سبق وهي في تصاعد مستمر منذ 2003 وهذا لا يعني عدم وجودها سابقا، حيث تشير الإحصائيات الرسمية الصادرة عن المؤسسات الحكومية إلى تسجيل أرقام قياسية بما يؤشر لترسيخ هذه الظاهرة. حيث بلغت في السنوات الثلاثة الأخيرة فقط اكثر من 2000 حالة انتحار،وفي معلومات سابقة للمفوضية العليا لحقوق الإنسان (مستقلة) فقد رصدت قرابة ثلاثة آلاف حالة انتحار بين عامي 2015 و2017، أقرّت بعدم وجود إحصائيات حقيقية لحالات الانتحار، كون الأرقام الموجودة تمثل الحالات الفعلية التي تنتهي بالموت، دون الخوض في عدد المحاولات التي لم تنجح أو الحالات التي لا يتم الكشف عنها لأسباب مجتمعية.
“وعلى وفق منظمة الصحة العالمية، يعاني واحد من كل
أربعة عراقيين من هشاشة نفسية في بلد يوجد فيه ثلاثة
أطباء نفسيين لكل مليون شخص، مشيرة إلى أن إنفاق
العراق على الصحة النفسية لا يتجاوز نسبة اثنين في
المئة من ميزانيته للصحة”.
وفي مقاييس عالمية سابقة فقد احتل العراق المرتبة
150 من بين 187 مدرجة والثالثة عشر عربيا، بين بلدان العالم الأعلى بحالات الانتحار لعام 2023.
وتعزو اسباب الأنتحار عموما إلى الضغوطات الاقتصادية والأجتماعية والثقافية والتفكك الأسري وحالات اليأس وفقدان الأمل وتعاطي المخدرات إلى جانب الأسباب النفسية كالأكتئاب مثلا في حالاته الشديدة وبعض من الأمراض العقلية
انقسم المجتمع العراقي في قضية فقدان الطبيبة “بان” لحياتها كما هو الحال في سابقاتها إلى قسمين: الأول ينادي بتحقيقات شفافة وواضحة لملابسات فقدانها للوصول إلى مرتكبي الجريمة والجهة التي تقف ورائها، وآخر يرى ان هذه الجرائم عادية في المجتمع ولا غرابة في حصولها وكأن شيئ لم يكن وحتى ان حصلت فهناك جهات تستطيع الفصل بها خارج القضاء وفي مقدمتهم العشيرة فعندها يطلق سراح القاتل وينسى المقتول. بل والانكى من ذلك هناك من يفتي قطعيا بأسباب الفقد قبل الجهات التي يفترض ان تكون صاحبة القرار.
عندما تغيب الشفافية وحكم القانون فأن الأنسان حيا أم ميتا لا قيمة له وليست هو أثمن رأسمال كما تؤكده الفلسفة الأنسانية بل المال هو الأثمن من الأنسان ولا نعتقد ان قضية الفقيدة الطبيبة بان ستأسس لحالة صحية يحترم فيها حياة الأنسان ما دامت نفس الأسباب قائمة وتعيد إنتاج سحق الأنسان وحياته وكرامته.
في الختام الرحمة والسلام الأبدي لروح الفقيدة الطبيبة “بان” ولكل المفقودين قتلا ام انتحارا , أما كاتب السطور هذه فهو ليست محققا أو طبيبا جنائيا لكي يقرر حالة المفقودة وعلينا احترام التخصصات وتكريس نزاهتها في الكشف عن حالات الأنتحار والقتل وعدم توظيف التخصصات في غير أغراضها الأنسانية اما التعاطف الأنساني مع الضحايا فهو واجب انساني بعيدا عن استثمار ذلك في أجندة غير إنسانية ولكن علينا أماطة اللثام عن الأسباب والعوامل التي تهدر مكانة الأنسان وكرامته.