العراق اليوم يعيش معادلة معقدة ومربكة في آن واحد ، إذ يجد نفسه واقفاً عند نقطة وسطى بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران ، يستفيد من الأولى ولا يستطيع الاستغناء عن الثانية. فمنذ عام 2003 لم يتمكن النظام السياسي العراقي من بناء قرار سيادي مستقل ، بل ظل رهيناً لتوازن هش بين حاجته إلى واشنطن وولائه العميق لطهران. فالولايات المتحدة تمثل للعراق منفذاً ضرورياً لحماية اقتصاده ، فعوائد النفط لا تمر إلا عبر النظام المالي العالمي الخاضع لإشرافها ، وأي عقوبات أو تضييق أمريكي من شأنه أن يشل شريان الدولة المالي بالكامل. كما أن واشنطن أثبتت في لحظات الانهيار أنها الملاذ الأخير ، والدليل ما جرى في صيف 2014 عندما انهارت القوات العراقية أمام زحف تنظيم داعش واضطر نوري المالكي لطلب التدخل العسكري الأمريكي لإنقاذ الوضع. ورغم ذلك كله ، لم يترجم العراق هذه الحاجة إلى التزامات سياسية أو استراتيجية واضحة تجاه واشنطن ، بل بقي الخطاب العام يطغى عليه طابع العداء ورفض الوجود الأمريكي واتهامه بالهيمنة والاحتلال ، فيما تستمر بعض القوى العراقية برفع شعارات المقاومة والتصدي للمصالح الأمريكية في المنطقة.
على الجهة الأخرى ، تتجذر علاقة العراق بإيران ليس فقط باعتبارها جاراً جغرافياً أو شريكاً تجارياً ، بل من خلال شبكة نفوذ أيديولوجية وسياسية وأمنية تمتد في عمق النظام السياسي والمجتمع. فمنذ سقوط النظام السابق لعبت طهران دوراً محورياً في دعم القوى السياسية الشيعية الصاعدة ، وأسست لعلاقة تقوم على الدعم المالي والسياسي المباشر ، وعلى رعاية وتدريب وتسليح فصائل مسلحة باتت جزءاً من المشهد العراقي. هذه الفصائل لا ترى نفسها مجرد حليف لإيران ، بل امتداداً عضوياً للحرس الثوري الإيراني ، وتتحرك أحياناً بما يتجاوز إرادة الدولة العراقية نفسها ، الأمر الذي جعل الانسجام مع المواقف الإيرانية في القضايا الإقليمية قاعدة ثابتة ، سواء تعلق الأمر بسوريا أو اليمن أو الموقف من الوجود الأمريكي.
في هذا المشهد المزدوج ، يظهر العراق وكأنه يعيش علاقة زواج مزدوج ، يستفيد من واشنطن وقت الأزمات لكنه لا يمنحها الولاء السياسي ، وينحاز قلبه وقراره لطهران حتى وإن أثقل ذلك على مصالحه الوطنية. الحاجة لأمريكا براغماتية ومصلحية ، أما العلاقة مع إيران فهي أيديولوجية ووجدانية وسياسية ممتدة ، وبين هذين الخطين تتشكل سياسة عراقية تبدو مرتبكة وغير مستقرة. النتيجة أن العراق يفقد جزءاً كبيراً من سيادته ، فهو ليس قادراً على الاستغناء عن الأولى ولا راغباً في الانفكاك عن الثانية ، فيبقى معلقاً بين الحاجة والولاء ، بين الاقتصاد والأمن من جهة والانتماء السياسي والعقائدي من جهة أخرى.
هذا الوضع لا يمكن أن يستمر من دون أثمان باهظة ، فالإفراط في الارتهان لإيران قد يجر العراق إلى عزلة دولية وعقوبات اقتصادية خانقة ، فيما الإفراط في الانفتاح على واشنطن قد يضعه في مواجهة مباشرة مع نفوذ طهران العميق في الداخل. لذلك يعتمد العراق حتى الآن سياسة التوازن الهش ، وهي محاولة لإدارة العلاقة بين الطرفين دون حسم ، لكن هذه السياسة محفوفة بالمخاطر ، لأن أي تغير في موازين القوى أو أي تصعيد في المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران سيجعل العراق عاجزاً عن الاستمرار في هذا التوازن ، وعندها سيكون مضطراً للانحياز إلى طرف على حساب آخر ، وهو خيار مكلف بكل المقاييس.
وهكذا يمكن القول إن معضلة العراق الحقيقية ليست في الجغرافيا السياسية وحدها ، بل في بنية نظامه الداخلي الذي لم يتمكن منذ عام 2003 من صياغة قرار مستقل قائم على المصلحة الوطنية ، فظل يعيش في ازدواجية معقدة تحوله إلى ساحة صراع لا إلى لاعب فاعل ، وإلى دولة تستنزفها تناقضات الخارج والداخل أكثر مما تستثمر ثرواتها وموقعها لصالح مستقبلها وشعبها.