منذ سقوط النظام الاجرامي السابق عام 2003، تشكلت علاقة معقدة بين إيران ووسط وجنوب العراق، اتسمت بكونها علاقة غير متكافئة على الإطلاق… ؛ إيران، الدولة الإقليمية ذات الطموحات الاقليمية والسياسات البرجماتية … ؛ وجدت في انهيار مؤسسات الدولة العراقية فرصة ذهبية لإعادة رسم موازين القوى على حدودها الغربية، وإعادة صياغة هوية جزء مهم من العراق وفق مصالحها الاستراتيجية.
لكن الأهم أن هذه السيطرة لم تتخذ شكل الاحتلال المباشر أو الضم الرسمي، بل جاءت عبر “الهيمنة الناعمة” التي تحقق أقصى المكاسب بأدنى التكاليف.
فمن يراقب طبيعة العلاقة بين إيران ووسط وجنوب العراق، يدرك أنها علاقة غير متكافئة تقوم على صيغةٍ تحقق لطهران أكبر قدر من النفوذ والمكاسب، مع أدنى حد من الالتزامات والمسؤوليات الانسانية والاخلاقية … ؛ ولو افترضنا – جدلاً – أن المجتمع الدولي عرض على إيران أن تتسلم رسمياً إدارة المحافظات ذات الغالبية الشيعية في العراق، وتضمها إليها تحت السيادة الإيرانية المباشرة، كما فعلت سابقا مع عبادان والمحمرة وغيرهما … ؛ لوجدنا أنها سترفض ذلك دون تردد، والسبب بسيط : الانتقال من السيطرة غير المعلنة إلى الحكم الرسمي يعني تحمّل أعباء حقيقية لم تكن ملزمة بها من قبل.
فالضم الرسمي كان سيفرض على طهران أن تعامل تلك المناطق كأي إقليم إيراني آخر؛ أي أن تطلق إليها حصتها الطبيعية من مياه الأنهار التي جرى تحويل مجراها داخل الحدود الإيرانية، وأن توفر الغاز والكهرباء مجاناً، وأن تضع خططاً لحمايتها عسكرياً من أي تهديد خارجي، وأن تنفق على تطوير البنية التحتية، وتحديث المنظومة الصحية والتعليمية، وتحقيق نمو اقتصادي مستدام.
لكن الواقع الحالي أكثر ملاءمة لمصالح إيران: فهي تمارس سيطرة فعلية على القرار السياسي والأمني في هذه المناطق دون أن تتحمل التزامات الدفاع أو الإنفاق… ؛ فالعراق – من ماله وموارده – هو الذي يحمي نفسه، ويشتري الغاز والكهرباء من إيران بأسعار تجارية، ويغرق أسواقه بالبضائع الإيرانية والمواد الغذائية المستوردة … ؛ فالسوق العراقية مفتوحة على مصراعيها أمام البضائع والمواد الغذائية الإيرانية، مما يجعل العراق مستهلكاً دائماً للمنتج الإيراني ومصدراً للعملة الصعبة لطهران… ، فيما يتوجه مرضاه إلى المستشفيات الإيرانية وطلابه إلى الجامعات الإيرانية… ؛ اذ ان مئات آلاف العراقيين يتجهون للعلاج أو التعليم في إيران، مما يدر مليارات الدولارات على الاقتصاد الإيراني سنوياً ؛ وحتى في نسج علاقاته الدبلوماسية أو الاقتصادية مع دول أخرى، يجد العراق نفسه مضطراً إلى مراعاة الرأي الإيراني قبل الإقدام على أي خطوة… ؛ فهذه المتطلبات تعني إنفاقاً مالياً مستمراً ومسؤوليات سيادية لا ترغب طهران بتحملها، وهي اليوم تستمتع بوضع أفضل بكثير: سلطة الأمر الواقع بلا التزامات الدولة الحاكمة… ؛ كما ذهب الى ذلك الكاتب صاحب الاسماعيلي .
والأدهى أن هذه الهيمنة تتغذى على شعور قطاع واسع من الشارع الشيعي في العراق بالامتنان لإيران، إذ يربط كثيرون بقاءهم ببقائها، ويرون عزتهم من عزتها، وشرفهم من شرفها… ؛ و هنا يتحول النفوذ السياسي إلى ولاء عاطفي، وهو أعمق وأخطر، لأنه يكرّس النفوذ الأجنبي بوصفه امتداداً للهوية والانتماء، لا باعتباره تبعية أو استغلالاً.
بهذه المعادلة، تستطيع إيران أن تحصد نفوذاً استراتيجياً واسعاً في وسط وجنوب العراق، بلا كلفة أمنية أو مالية تذكر، مستندة إلى مزيج من المصالح الاقتصادية، والهيمنة السياسية، والارتباط العاطفي الذي يصعب فصمه بالوسائل التقليدية.
خلاصة المعادلة
إيران بعد 2003: من التدخل الخفي إلى النفوذ الممأسس … ؛ فمنذ 2003 وحتى اليوم، نجحت إيران في:
*تأسيس شبكة نفوذ سياسي داخل مؤسسات الدولة العراقية، عبر أحزاب وقيادات تدين بالولاء السياسي أو الأيديولوجي لها.
*ترسيخ أذرع مسلحة ؛ تجعل نفوذها العسكري حاضراً دون أن تتحمل تكاليف جيش نظامي.
*اختراق النسيج الاجتماعي والديني عبر المرجعيات الدينية، والمواسم والمناسبات الدينية المشتركة، والزيارات المتبادلة, والتنسيق مع الفئات والشخصيات ذات الجذور الايرانية .
فإيران، ومن خلال هذه المنظومة، تسيطر فعلياً على القرار السياسي والأمني والاقتصادي لوسط وجنوب العراق، بينما تبقى بغداد هي المسؤولة عن حماية نفسها، وتمويل خدماتها، وإعالة سكانها… ؛ إنها صيغة تحقق لطهران نفوذاً استراتيجياً دائماً دون أي كلفة مباشرة، وتجعل أي محاولة عراقية للتحرر من هذا النفوذ صعبة ومعقدة، لأنها تتطلب مواجهة سياسية واقتصادية ونفسية في آن واحد.
ولكني اختلف مع ما ذكره الكاتب الاسماعيلي في النص اعلاه ؛ فبعض الجهات الايرانية السياسية والدينية لا تؤمن بهذه السياسة اولا ؛ وهنالك طيف واسع من الايرانيين يدعم الشيعة في العراق بمختلف انواع الدعم اللوجستي والمادي ؛ فضلا عن الاواصر التاريخية والدينية والاجتماعية والاهداف الاستراتيجية المشتركة والتي تجمع الطرفين ؛ الا انه ومما لا شك فيه ان الكفة الراجحة للجانب الايراني .