17 أغسطس، 2025 10:37 ص

الشاعر أكرم بخيت حين يُزهرُ الحزنُ على ضفاف الفرات

الشاعر أكرم بخيت حين يُزهرُ الحزنُ على ضفاف الفرات

في مدينة الحلة، حيث يلامس الفرات ذاكرة الأرض، ويتهجّى النخيل صمت الأسلاف، وُلد الشاعر أكرم بخيت تايه عام 1960، فكان ميلاده امتدادًا لصوتٍ شعريٍّ يخرج من قلب العراق المثقل، يحمل في نبراته وجع الإنسان وهمّه، ويصوغ من الكلمات تراتيل عزاء وأمل.

نشأ بخيت في تلك المدينة العريقة التي اختزنت منذ بابل الأولى نُتف الشعر والأساطير، وأكمل دراسته فيها، متدرجًا من مقاعد المدرسة حتى كلية التربية، التي تخرج منها وعمل موظفا، وكان يصوغ القصيدة من ضوء الروح وظلّ الحياة. ومنذ أيامه المدرسية، حمل أكرم همّ الشعر، وكان يشارك في مهرجانات التربية، يقرأ على المنابر نصوصه التي تتأرجح بين وجدان الفرد وأنين الجماعة، بين الوطن المهدور والذات المطمئنة بالخلق.

لم يكن مجرد شاعر يكتب، بل كائن لغويٌّ مشحونٌ بتجربة معيشة قاسية، فجاءت قصائده مشبعة بالأسى الجميل، وبالبوح العميق، كأنها تصدر عن قلب يسكنه التاريخ وتغشاه جراحات الإنسان. شارك في مهرجانات وندوات، ونشر في صحف ومجلات عراقية، ليكون صوته جزءًا من الجوقة الشعرية العراقية، في زمن كان فيه الصوت الإنساني النقي ضربًا من الجسارة.

أصدر أكرم بخيت ديوانه الأول “بوابات الوجع” عام 2015، وهو عنوان يكشف منذ عتبته عن وعي الشاعر بتجربة الألم، لا كحدثٍ عارض، بل كبنية شعورية أصيلة. وفيه، عبَر القارئ بواباتٍ متوالية من الأنين الجمعي، والحنين الشخصي، والقلق الوجودي، حيث تتداخل اللغة والصورة لتشكّلا فضاءً شعريًا يفيض برائحة الأرض وجراحها.

أما ديوانه الثاني “ألواح هابيل” الصادر عام 2017، فهو سفر آخر في التاريخ والأسطورة، إذ يستدعي شخصية “هابيل” بوصفه رمزًا للضحية، ليبني على اسمه نصوصًا تمتح من الميثولوجيا والراهن معًا. وقد تماهى الشاعر في هذا الديوان مع الوجع الإنساني العميق، حتى بدت قصائده كأضلاع حجرية ألقتها الذاكرة فوق نهرٍ من الدموع.

ولم يكتفِ بخيت بما نُشر، إذ ينتظر ديوانه الجديد “تراتيل طائر الهم” الخروج إلى النور، وهو عنوان ينطوي على نبرة صوفية حزينة، تنذر بمرحلة شعرية أكثر نضجًا وامتزاجًا بين الهم الذاتي والقلق الكوني.

لم تمرّ تجربة أكرم بخيت النقد مرور الكرام، بل توقّف عندها عدد من النقاد الذين وجدوا في شعره مادة تستحق التأمل والتحليل. فقد كتب عنه الروائي والناقد غانم عمران المعموري دراسة نقدية بعنوان “وحدة الهم الشعري في قصيدة أوراق وخنادق”، أبرز فيها كيف تتكثف التجربة الشعرية لدى بخيت في معاناة الإنسان العراقي، حيث تتشابك الذكريات بالحاضر، وتنهض اللغة على أنقاض الانكسار.

كما تناول الناقد والمترجم محمد العميدي قصائده في كتابه “قراءات نقدية في الشعر الحلي”، مشيرًا إلى النبرة المغايرة التي يحملها شعر بخيت، بما فيها من صدق شعوري، وإحكام لغوي، وانحياز دائم للمعنى العميق دون أن يفقد الشعر شعريته. وفي مؤلف آخر، عاد غانم عمران ليتناول شعر بخيت من زاوية وجدانية، في كتابه “الذات والوجدان في القصيدة: شعراء بابل أنموذجًا”، معتبرًا بخيت صوتًا نابضًا بالحزن الجليل، وتعبيرًا عن ضمير شعري لم يتلوث بزخرف القول.

وقد تُرجمت نصوص من شعره إلى اللغة الإنكليزية، في إشارات متكررة إلى عالميته الممكنة، تلك التي تبدأ من عمق الجراح العراقية وتمتد إلى قلب الإنسان أينما كان.

شارك بخيت في مهرجان بابل الدولي للثقافات والفنون لدورتين متتاليتين، كما كان من الوجوه الثابتة في أمسيات اتحاد أدباء بابل، يقرأ قصائده بهدوء من يعرف أن الشعر ليس هتافًا ولا صخبًا، بل جمرٌ مستورٌ تحت الرماد، لا يراه إلا من يحترق سرًا.

أكرم بخيت، شاعر يتقن الصمت أكثر من التصريح، والنزف أكثر من الزهو، ويفهم أن القصيدة ليست متراسًا، بل نافذة، تطلّ على الذات والآخر، وتُصغي لأنين الجدران المهجورة، ولهمس العابرين في ليالي الحلة الطويلة.