في كل مرحلة مفصلية من التاريخ، ثمة قائد يقف على منصة عالية، يلقي خطابًا حادًا وواثقًا، يحرك الجماهير، ويعدهم بالرفاهية والخلاص؛ وفي كل مرة تقريبًا، تكشفت الأحداث لاحقًا عن حقيقة مرة: ما بدا يقينًا كان جهلًا، وما بدا عمقًا كان قشرة رقيقة فوق سطح شديد الهشاشة.
هكذا وصلت الأمة من الإحباط ولا شيء يهم نتيجة تحفيز العواطف بلا معطيات مادية تحقق ما يتحدث به من يفترض انهم قادة ويعلمون ما يفعلون، بيد انهم لا يتعدون الوهم التصوري في تقدير أنفسهم ومعرفتهم وقدراتهم وتزداد هذه وفق قدرات جوقة المستفيدين الذين يقنعون القط انه أسدا.
القناعة الزائفة: اختزال العالم في شعار
يواجه المتصدرون، في كل مستوياتهم، واقعًا معقدًا يتشابك فيه الاقتصاد بالثقافة، والجغرافيا بالتاريخ، والمصالح بالتحيزات. لكن كثيرًا ما نراهم يقفزون على هذه الشبكة المعقدة إلى تفسيرات مبسطة تُرضي المستمعين:
هذه العبارات يختلف عليها الجمهور، لكن الغالبية تقبلها فهي تبدو كإجابات سهلة لمشاكل شديدة التعقيد. لكن الطمأنينة التي تبثها هي طمأنينة زائفة، لأنها لا تطلب تضحية ونست العقول حقيقة أن ليس هنالك حل بلا مخاطر، وأن كل خطوة في السياسة قد تطلق سلسلة تفاعلات لا يمكن التنبؤ بها.
العمق الوهمي: فجوة لا يراها صاحبها
الخطورة هنا ليست فقط في الجهل، بل في مبتلى لا يرى. فالقائد الذي يتحدث بثقة عن “إصلاح التعليم” أو “إعادة هيكلة الاقتصاد” قد لا يدرك أنه لا يفهم سوى العناوين العريضة، وأن التفاصيل التقنية التي تُشكّل جوهر أي إصلاح غائبة عن ذهنه؛ فأخطر القادة ليسوا الجهلاء الذين يعرفون أنهم يجهلون، بل أولئك الذين يتصورون أنهم يملكون الفهم الكافي لكل شيء، أولئك يصنعون عالمًا داخل رؤوسهم، عالمًا سلسًا، بسيطًا، يمكن ضبطه بإصدار قرارات عليا، وفي لحظة ما، يصبح اليقين ذاته جزءًا من هويتهم، فلا يعودون قادرين على الشك أو المراجعة، لأن الاعتراف بالجهل يبدو وكأنه انكسار سياسي. هكذا يغدو القائد أسيرًا لوهمه، والجماهير أسيرة لوهمه بالأمل.
ما يزيد الأمر تعقيدًا أن هذا المتصدر للقيادة أو المفكر أو المحلل غالبًا ما يحيط نفسه بمن يرددون صدى كلماته، فيدخل في فقاعة معرفية تُغذي وهمه بأنه يفهم كل شيء. وفي هذه الفقاعة، يصبح النقد جريمة، والأسئلة المعقدة علامة ضعف، بينما تُكرّس البساطة المضللة كفضيلة قيادية.
ليس كل القيادات تفكر بأنانية لكن السلطة، بطبيعتها، تميل إلى خلق وهم الفهم، لأن القائد يرى في نفسه صورة المخلّص، ويرى في اعترافه بحدود فهمه تهديدًا لهذه الصورة، لكن في عصرنا الذي أصبح فيه كل شيء متشابكًا من الاقتصاد إلى البيئة، لم يعد هذا الوهم رفاهية، بل خطرًا وجوديًا. قائد يجهل أنه يجهل قد يشعل حربًا لا تنتهي، أو يطلق إصلاحًا اقتصاديًا ينتهي بكارثة اجتماعية، أو يتعامل مع أزمة بيئية وكأنها لعبة أرقام يمكن التلاعب بها.
في زمن سابق، لا يحتاج القائد لعلم الكثير ويظل ناجحًا نسبيًا، لأن العالم كان أبسط، والقرارات أقل تشابكًا، أما اليوم، والأنظمة المترابطة، والذكاء الاصطناعي، فإن أي قرار محلي قد يولد آثارًا كونية، هنا تصبح القيادة السطحية خطرًا وجوديًا.
القائد الذي يظن أن كل شيء تحت سيطرته يُشبه ربان سفينة يبحر في بحر هائج بعينين مغمضتين، وما يضاعف الخطر أن مثل هذا الربان لا يستمع لصوت أي بحار يشير إلى الصخور أمامه، لأنه يظن أنه يرى أبعد منهم جميعًا.
شعوب تسحرها السلطة
الجماهير ليست بريئة تمامًا من صناعة هذا الوهم. هي بدورها تألف المتصدي الواثق، وتميل إلى تبني الحلول السهلة، في اللاوعي الجمعي هناك كره للتعقيد، ونفور من الزعماء الذين يتحدثون عن المشكلات كما هي: متشابكة، صعبة، تحتاج إلى سنوات من العمل الصبور.
وهكذا تتشكل حلقة معيبة:
ثم قرارات سطحية تنفجر لاحقًا في أزمات أعقد، لكن لماذا تنجذب الجماهير لهذا النمط من القادة؟ لأن الإنسان بطبعه يميل إلى السطحية والبساطة، القائد الواثق، حتى لو كان واثقًا بلا سبب، يبدو أكثر جاذبية من قائد يعترف بتعقيد الواقع أو بجهله بجوانب معينة، وهكذا ينشأ تحالف غير واعٍ بين الثقة الزائفة في الأعلى والرغبة في الحلول السهلة في الأسفل، يديم دورة من القرارات السطحية، والسياسات القصيرة النظر، والنكسات المتكررة.
أزمة القيادة في عصر التعقيد:
إن ما ينقذ الأمم ليس قادة يعرفون كل شيء، فهذا وهم مستحيل، بل قادة يملكون شجاعة الاعتراف بما لا يعرفونه، التواضع هنا ليس فضيلة أخلاقية فقط، بل أداة سياسية:
في عالم بالغ التعقيد، ليس أعظم القادة من يملكون كل الإجابات، بل من يملكون شجاعة القول: لا أعرف، فلنسأل، فلنفكر معًا.
التواضع الفكري هنا ليس ضعفًا، بل فضيلة سياسية؛القائد الذي يدرك محدوديته يصبح أكثر قدرة على الاستماع لخبراء، على جمع رؤى متعددة، على بناء سياسات تقوم على فهم أعمق بدلًا من الانطباعات العامة؛ أو حذف أي فكرة وراي لا يطابق ما يريد المتصدر في المجتمع.