16 أغسطس، 2025 12:38 م

البارتي والجمع بين الإخلاق والسياسة

البارتي والجمع بين الإخلاق والسياسة

بعد حرب عالمية استنزفت قدرات سياسية واقتصادية وبشرية، وفي ظل ما كانت تشهدها المنطقة من تغييرات إستراتيجية في موازين القوى المحلية والإقليمية، وفي يوم سياسي بإمتياز من تاريخ الكورد الحديث، وبعد مشاورات واتصالات مباشرة مع سياسيين ومثقفين كورد، أقدم البارزاني الخالد على خطوة ضرورية، وتحوُّل فعلي في المقاربة السياسية تجاه قضية شعب كوردستان، وأعلن يوم 16 آب 1946 عن تأسيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني ( البارتي).

  خطوة البارزاني الخالد، التي كانت مرآة للواقع والضمير، وملاذًاً للعقل في زمن تشابك واستقطاب الأيديولوجيات، والتي حملت رسائل واضحة لجميع الأطراف، لم تكن إجراءً عادياً أو بياناً رمزياً، بل كانت قراراً مهماً ترجم بالشكل والمضمون المهمة التي سعى اليها سيادته منذ ثورة بارزان الأولى، وكانت مترافقة مع خارطة طريق تضمن إنتهاج مسار مبني على قاعدة الجمع بين الأخلاق والسياسة، لذلك لقت تجاوباً سياسياً وشعبياً واسعاً من أطراف شكلت، لاحقاً،عمقاً إستراتيجياً للحزب، وداعماً أساسياً لتوجهاته ومواقفه، ولاعباً فاعلاً في ترسيخ قراراته.

   وخلال العقود الثمانية من عمره المديد، حافظ (البارتي) بتحركاته وممارساته وخطاباته تأطير على موقع ومكانة الكورد داخل العراق، لذلك رفع لسنوات طوال شعار (الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكوردستان)، دون أن ينزلق نحو التصعيد، بل ترك الباب مفتوحاً أمام الحوار والتفاهم على إستراتيجيات وطنية تشمل الجميع.  

   بعد ثورة تموز 1958 وعودة البارزاني الخالد من الإتحاد السوفيتي السابق، وبعد تغيير البيئة التي كان البارتي يتحرك ضمنها، أعاد البارتي ترتيب أولوياته، ونجح في إعادة تعريف موقعه السياسي، وتحول إلى قوة سياسية كوردستانية وعراقية، تستمد قوتها من شعبيتها وتاريخها، ومن ذلك المنطلق، طرح بهدوء ومن دون صخب أو مزايدات سياسية ما كان يراه مناسباً للعراق وكوردستان، ووظف ما كان يجري في العراق ضمن معادلات الحكم والحوكمة كجزء من دفاعه الإستراتيجي عن النظام الجمهوري والديمقراطية في العراق وعن الوجود والهوية الكوردية، وبرز دوره كعنصر ضامن للاستقرار.

   أما في مرحلة ما بعد إنحراف ثورة تموز عن مسارها الحقيقي وغياب التوافق الوطني الشامل وإضعاف فاعلية حكومة الثورة، فقد شعر البارتي بأن المسار يُدار من طرف واحد، وأن ذلك المسار يستهدف الكورد بشكل عام ويستهدفه حصرياً، ويحاول إقصائه وتهميشه وعرقلة إستمراره كلاعب أساسي في المشهد السياسي. وكخيار واقعي، تحوُّل في أيلول 1961، من شريك سياسي ضمن مؤسسات الدولة الى حركة سياسية مسلحة، دون أن يغلق الباب أمام تسوية تحفظ حقوق الكورد وموقعهم ضمن العراق، وتضمن لهم شراكة وطنية قائمة على التفاهم. هذا التحوُّل منح البارتي موقعاً جديداً أكثر قوةً ورسوخاً في مواجهة المعادلات والتوازنات القسرية.

في آذار 1970، وبعد مفاوضات ونقاشات توصل الى إتفاق مع حكومة البعث، إتفاق لو تم تنفيذه، لكان يجنب العراق وكوردستان من الويلات والمآسي، ويُشكل مدخلا لتسوية واسعة، تتيح إعادة ترتيب الأمور عبر الحوار والتفاهم و الدفع باتجاه حلول وطنية جامعة على قاعدة الشراكة الحقيقية والحوار والمسؤولية المشتركة التي تضمن سيادة الدولة من جهة، وتحفظ التوازنات الداخلية من جهة أخرى، ولكن البعث، بعد تأميم النفط وتوقيع إتفاقية مع الاتحاد السوفيتي السابق، أصيب بالغرور وعاد الى ممارسة الغطرسة ضد الكورد، وفي 1974، شنت طائراته وقواته العسكرية هجمات وحشية على كوردستان.

  مواقف البارتي في تلك المرحلة، والمراحل اللاحقة، بعد إنتفاضة آذار 1991 وبعد إسقاط البعث من قبل الأمريكان، لم تهدف إلى التصعيد، وقد أثبتت ممارساته إنه قادر على لعب دور جامع، في تقريب المسافات بين القوى السياسية الكوردستانية والعراقية وفي تعزيز الإجماع على الأولويات السياسية ضمن صيغة وطنية تحمي المكتسبات وتستوعب المتغيرات، وقد مر البارتي خلال العقود الثمانية المنصرمة من عمره بمفترقات كثيرة، وبالذات بعدما همش أصدقاء الأمس الدستور  وكرروا أخطاء من سبقوهم وتراجعوا عن العهود والوعود والإتفاقات التوافقات التي كانت صمام أمان لوحدة البلاد وتماسكه، وسادت الشكوك الجدية في نفوس الكثيرين وأقتنعوا بإستحالة بناء دولة حديثة في العراق بعقليات طائفية وشوفينية ومذهبية. مع ذلك كله مازال البارتي محاقظاً على موقعه وماثقه الأخلاقية، وقد حذر مراراً من مغبة الإصطفاف خلف المحاور وترك القرار السياسي عرضةً لتجاذبات لا ناقة للعراقيين فيها ولا جمل.

   خلاصة الكلام، لقد انفرد  البارتي بمواقفه المستقلة، إيماناً منه بأن السياسة ليست تغطية وتضليل، بل رسالة لا تخلو من المخاطر، ومسؤولية أخلاقية لا تخضع للمساومة أو التأويل ومواجهة شجاعة وصريحة للمشكلات والأزمات، لذلك ينهل أعضائه وأنصاره، كل يوم وكل عام دروساً  سياسية وأخلاقية لا تنسى من نهج مؤسسه الخالد، وفكر رئيسه كاك مسعود بارزاني.

أحدث المقالات

أحدث المقالات