خاص: قراءة- سماح عادل
يستأنف الكتاب الحديث الكتابة والأدب في الحضارة اليونانية، وعن الشعر الذي تحول إلي ملاحم طويلة. وذلك في الحلقة التاسعة عشر بعد المائتين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
الكتابة..
يحكي الكتاب عن ظهور الكتابة في الحضارة اليونانية القديمة: “والراجح أن أولى الأغراض التي استخدمت فيها الكتابة في بلاد اليونان كانت هي الأغراض التجارية أو الدينية، ويبدو أن الرقى والتعاويذ التي كان يتلوها القساوسة هي مبدأ الشعر، وأن ما يكتب في أوراق شحن السفن كان بداية النثر. ثم انقسمت الكتابة نوعين مختلفين أحدهما دقيق منتظم للنقوش وما إليها، والثاني هي الكتابة الدارجة التي تستخدم في الأغراض اليومية العادية.
ولم يكن في كلا النوعين نبرات، ولم يكن يترك بين الكلمات فراغ، ولم تكن فيها علامات ترقيم فإذا أريد الانتقال من موضوع إلى موضوع دلوا على ذلك بشرطة فاصلة أفقية يسمونها برجرافون أي علامة “تكتب إلى ناحية”.
وكانت المواد التي تكتب عليها متنوعة فكانت في بادئ الأمر، إذا جاز لنا أن نأخذ بقول بلني، أوراق الأشجار أو لحاءها فإذا أرادوا النقش استخدموا الحجارة أو البرونز أو الرصاص. وكانوا يستخدمون للكتابة العادية ألواح الطين كما كان يفعل أهل ما بين النهرين، ثم استخدموا ألواحا من الخشب تغطيها طبقة من الشمع، وكانت هذه شائعة بين التلاميذ قبل أيامهم فإذا أرادوا أن يكتبوا شيئا يبقى أمدا طويلا استخدموا أوراقا من البردى كان الفينيقيون يأتون بها من مصر.
وفي العهد الذي انتشرت فيه حضارة اليونان في خارج بلادهم، وفي العهد الروماني، استخدم الرق المصنوع من جلود المعز والضأن أو أغشيتها الرقيقة، وكانوا يكتبون على ألواح الشمع بقلم معدني، وعلى ورق البردى والرق بقلم من الغاب يغمس في الحبر، وكانت الكتابة على الشمع تمحى بنهاية القلم المعدني السميكة، أما الحبر فكان يمحى بقطعة من الإسفنج؛ ولذلك أرسل الشاعر ماريتال إلى صديق له قطعة من الإسفنج مع قصائده لكي يمحوها “بضربة واحدة”. وإن كثيراً من النقاد في هذه الأيام ليحزنهم أن هذا الأدب الجم لم يبق له الآن وجود”.
أعمدة..
ويفصل الكتاب عن طريقة الكتابة: “وليس ثمة ميدان وصلتنا من الألفاظ القديمة بالكثرة التي وصلتنا من ميدان الكتابة. فكلمة ورق بالإنجليزية paper مأخوذة من اسم نبات البردى papyrus، وقد أعادت دورة الفلك الطراز القديم لصنع هذه المادة من النبات المضغوط. وكان السطر من الكتابة يسمى باليونانية stichos أى صفا، وكان اللاتين يسمونه versus أي عودة إلى الوراء، ومنها اشتقت كلمة verse الإنجليزية. وكانوا يكتبون ما يريدون في صورة أعمدة على قطعة من ورق البردي أو الرق طولها من عشرين قدما إلى ثلاثين تلف حول عصا. وكانوا يسمون هذا الملف ببلوس biblos، وقد أخذوا هذا الاسم من المدينة الفينيقية المعروفة بهذا الاسم والتي كانت تمد بلاد اليونان بالورق المصنوع من نبات البردى. أما الملف الصغير فكان يسمى ببليون biblion. وكان الكتاب المقدس (bible) يسمى في أول الأمر biblia أي الملفات. فإذا كان الملف جزءا من كتاب أكبر منه سمي tomos أي مقطعا. وكان الجزء الأول من الملف يسمى بروتوكولون protocollon: أي الشريحة الأولى الملتفة بالعصا. وكان طرفا العصا يصقلان بحجر الخفاف ويلونان أحيانا وكان الملف يوضع أحيانا في غشاء يسميه اليونان diphthera ويسميه اللاتين vellum، إذا استطاع مؤلفه أداء ما يلزم ذلك من النفقات، أو كان ما كتب فيه ذا بال”.
تقسيم المؤلفات..
وعن تقسيم الكتاب الواحد: “وإذ كان من غير الميسور تداول الملف الكبير أو استخدامه في المراجعة، فقد كانت المؤلفات الأدبية تقسم عادة إلى عدة ملفات، وكانت كلمة biblos تطلق على كل ملف أو جزء من كتاب كبير. وقلما كان المؤلف نفسه هو الذي يقسم كتابه هذا التقسيم. فقد كان الناشرون المتأخرون هم الذين قسموا تواريخ هيرودوت إلى تسعة كتب، وكتاب توسيديدس في حرب البلوبونيز إلى ثمانية، وجمهورية أفلاطون إلى عشرة، والألياذة والأوذيسة إلى أربعة وعشرين جزءا. وإذ كان نبات البردى غالي الثمن، وكانت كل نسخة من الكتاب تكتب باليد، فقد كان عدد الكتب قليلا عند اليونان والرومان الأقدمين. وكان التعلم في تلك الأيام الخالية أيسر منه في هذه الأيام، وإن يكن كسب الذكاء في الزمن القديم لا يقل صعوبة عن كسبه اليوم. ولم تكن معرفة القراءة ميزة عامة عند الأقدمين، ولذلك كان معظم العلم يؤخذ بالتلقين من جيل إلى جيل أو من صانع إلى صانع”.
الأدب..
وعن الأدب يضيف الكتاب: “وكان معظم الأدب يتلوه بصوت جهوري قراء مدربون على أشخاص يتعلمونه بالسماع. ولم يكن في بلاد اليونان قبل القرن السابع جمهور كبير من القارئين، ولم تكن في البلاد دور كتب قبل أن يجمع بوليكراتس وبيسستراتس مكتبتيهما في القرن السادس. فلما كان القرن الخامس بدأنا نسمع عن وجود مكتبة خاصة ليوربديز وأخرى للأركون يوكليدز؛ ثم سمعنا في القرن الرابع عن مكتبة أرسطاطليس. ولم نسمع عن وجود مكتبة عامة قبل مكتبة الإسكندرية، كما لم نسمع بوجود مكتبة في أثينة قبل أيام هدريان. ولعل عظمة اليونان في أيام بركليز كان مرجعها إلى أن اليونان لم يكونوا يقرؤون كتبا كثيرة أو يقرؤون أي كتاب طويل.
لقد كان الأدب من أسباب فرقة بلاد اليونان كما كان من أسباب وحدتها، شأنه في هذا شأن الدين سواء بسواء. ذلك أن الشعراء كانوا يغنون بلهجاتهم المحلية، وكثيرا ما كانوا يصفون مناظر أقاليمهم، ولكن هلاس كلها كانت تستمع إلى أكثر الأصوات فصاحة. وكانت من حين إلى حين تستحثهم على أن يطرقوا موضوعات أعم وأوسع من تلك الموضوعات المحلية الضيقة. ولقد عدا الدهر كما عدت الأهواء الضيقة على هذا الشعر المبكر فأبادت أكثره حتى لم يعد في وسعنا أن نحس بما فيه من ثراء، وبما كان يطرقه من موضوعات، وبما يعزى إليه من جزالة اللفظ وجمال الشكل؛ ولكننا حين نطوف بجزائر اليونان ومدنهم في القرن السادس قبل الميلاد لا يسعنا إلا أن نعجب بوفرة ما تطالعنا به هذه الجزائر والمدن من الأدب اليوناني قبل عصر بركليز، وبجودة هذا الأدب”.
الشعر الغنائي..
وعن الشعر: “وإن الشعر الغنائي في ذلك القرن لتنعكس فيه صورة مجتمع أرستقراطي كانت فيه المشاعر والأفكار والأخلاق حرة مادامت تراعى واجبات الأدب وحسن التربية. وقد أخذ هذا الأسلوب من الشعر الحضري المصقول يختفي شيئا فشيئا في عهد الديمقراطية. وكان مختلف المبنى متعدد الأوزان، ولكنه قلما كان يقيد نفسه عن إحساسه وخياله في لغة موزونة.
وبينما كان أصحاب الشعر الغنائي يتغنون بالحب والحرب، كان الشعراء الجوالون ينشدون في مجالس العظماء الملاحم في وصف ما قام به اليونان من جلائل الأعمال. ولقد أنشأت جماعات المغنين على توالي الأجيال طائفة من القصائد الغنائية تدور كلها حول حصار طيبة وطروادة وعودة المحاربين إلى أوطانهم. وكانت الأغاني شائعة مشتركة بين هؤلاء الشعراء، وكان كل واحد منهم يؤلف قصته من قطع متفرقة أقدم منها عهدا، ولم يكن منهم من يدعى أنه هو الذي ألف سلسلة متتابعة من هذه القصص”.
هومر..
وعن هومر يواصل الكتاب: “وقد وجدت في طشيوز جماعة من أولئك الشعراء أطلقوا على أنفسهم اسم الهومريدي، وادعوا أنهم من نسل شاعر يدعى هومر، وهو في زعمهم مؤلف الملاحم التي كانوا ينشدونها في شرقي بلاد اليونان بأجمعه.
وقد يكون هذا الشاعر الضرير لا وجود له في الحقيقة بل كان أبا خياليا لقبيلة أو طائفة من الناس، شأنه في هذا شأن هلن، ودورس وأبون. ولم يكن اليونان في القرن السادس يعزون إلى هومر الإلياذة والأوذيسة فحسب، بل كانوا يعزون إليه كذلك كل الملاحم المعروفة وقتئذ. والقصائد الهومرية أقدم الملاحم المعروفة في التاريخ، ولكن جودتها في حد ذاتها وما فيها من إشارات كثيرة إلى شعراء سابقين، لتوحيان إلينا بأن هذه الملاحم الباقية هي الحلقة الأخيرة من سلسلة طويلة بدأت بالقصائد البسيطة القصيرة ثم تطورت حتى وصلت إلى هذه الأغاني الطويلة “المحيطة” بعضها في بعض. وألف في أثينة في القرن السادس قبل الميلاد لجنة حكومية قد تكون في عهد صولون، وقد تكون وهو الأرجح في عهد بيستراتس فانتقت الإلياذة والأوذيسة من بين الملاحم الأدبية الباقية من القرن الذي قبله، أو لعلها جمعتها بعد مقابلة النسخ الموجودة منها وقتئذ بعضها على بعض، ثم عزتهما إلى هومر، ثم نشرتهما أو لعلها صاغتهما في صورة هي في جوهرها صورتهما الحاضرة”.