السنة والشيعة: إشكاليات المصطلحات واستثمار المشتركات

السنة والشيعة: إشكاليات المصطلحات واستثمار المشتركات

دلالات مصطلحي السنّة والشيعة
هناك خطأ تاريخي شائع يرتبط بالدلالات الواقعية لمصطلحي (الشيعة) و(السنّة)، وهو نتاجٌ تراکميٌّ لعمل دعائي تأسيسي جبار وذكي، قامت به دولة آل أمية، تمثّل في اصطناع دلالات مزيفة لمصطلحي (الشيعة) و(السنّة)، وهي دلالات لا تمت إلى واقع نشوء المصطلحين بصلة. ومن البديهي، في الأبحاث والحوارات التاريخية والعقيدية، تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية والواقعية. ومن هنا؛ فإن تصحيح دلالات مصطلحي (الشيعة) و(السنّة)، هو إجراء علمي موضوعي، يحركه الدافع العقدي؛ لكشف مختلقات الأمويين وأسبابها وخطورتها المستدامة، وضرورات تصحيحها، وتسمية الظواهر والجماعات والفرق والمذاهب بمسمياتها الحقيقية والواقعية.
أ- مصطلح (الشيعة):
تؤكد المصادر الحديثية والتاريخية أن مصطلح (الشيعة) أو (شيعة علي) كان موجوداً خلال حياة رسول الله، وأنه هو الذي أطلقه على الموالين للإمام علي والمؤمنين بأنه من سيخلف رسول الله(1)، أمثال: أبو ذر الغفاري وأبو أيوب الأنصاري وأبو سعيد الخدري وأبو الطفيل الليثي وأبو الأسود الدؤلي وأبو فضالة الأنصاري وأُبيّ بن كعب والمقداد بن الأسود الكندي والبراء بن عازب والأصبغ بن نباتة وأويس القرني وثابت بن أبي فضالة وأبو حمزة الثمالي وبشير بن مسعود وجابر بن عبد الله الأنصاري وجندب بن جناد وحذيفة بن اليمان وحجر بن عدي وحبيب بن مظاهر الأسدي والخباب بن الأرت الخزاعي وخزيمة بن ثابت الأنصاري ورافع بن خديج وزيد بن أرقم وسلمان الفارسي وسليمان بن صرد الخزاعي وسعد بن عبادة وشرحبيل بن مرة الهمداني وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وعمرو بن الحمق الخزاعي وعثمان بن حنيف وعدي بن حاتم الطائي وقيس بن سعد بن عبادة ومحمد بن أبي بكر ومالك الأشتر النخعي وهاشم المرقال وهاني بن عروة.
وتستند هذه الحقيقة التاريخية إلى رواية الصحابيين جابر بن عبد الله الأنصاري وعبد الله بن عباس، مع تغيير في بعض الألفاظ: «كنا عند النبي، فأقبل علي بن أبي طالب؛ فقال النبي: قد أتاكم أخي. ثم التفت إلى الكعبة فضربها بيده، ثم قال: والذي نفسي بيده إن هذا و شيعته هم الفائزون يوم القيامة، ثم إنه أولكم إيماناً، وأوفاكم بعهد الله، وأقومكم بأمر الله، وأعدلكم في الرعية، وأقسمكم بالسوية، وأعظمكم عند الله مزيّة. قال: ونزلت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾(2)».
كما رواها الإمام علي بصيغة أخرى وبالمضمون نفسه(3). وهو ما يعني أن هؤلاء الصحابة لم يكونوا مجرد أصدقاء لعلي أو أنهم جماعته وفق المعنى الاجتماعي المتعارف، ولا العصبة الأخوية المتعاهدة على شأن دنيوي، وليست العلاقة العاطفية أو علاقة الحب والإعجاب وحسب، وإنما كانت تجمعهم بعلي العلاقة الولائية المبنية على إيمان ديني، وفق دلالات واقعة الغدير وحديثها، والتي رواها كثير من صحابة رسول الله، وذكرتها كتب جميع فرق المسلمين ومذاهبهم، بما فيها الفرق والمذاهب السنية، أي أنها واقعة وحديث محل إجماع لدى المسلمين، لكن الاختلاف بينهم يعود إلى تفسيرها وتأويلها؛ فالشيعة يعتقدون بأنها تدل على ولاية الإمام علي العقدية وخلافته السياسية بعد رسول الله، بينما يذهب أهل السنة بأنها تدل على اعتزاز النبي بالإمام علي ومحبته له وعلى الطلب من المسلمين أن يحبوهم كما يحبه هو(4).
أما أول ظهور لمصطلح الشيعة بدلالته العقدية السياسية؛ فقد كان بعد واقعة السقيفة مباشرة، وتبلور خلال الأشهر القليلة التي أعقبتها، وكانت تطلق على المسلمين الذين كانوا يلتفون حول الإمام علي ويعتقدون أنه الأحق بالخلافة، بدلالة نصوص رسول الله عليه، في قبال جمهور المسلمين، أي عامة المسلمين الذين بايعوا أبا بكر بالخلافة. أي أن ما كان يقابل (شيعة علي) حينها ليس مصطلح (السنة)، وإنما مصطلح (الجمهور) أو (العامة).
أما ظهور مصطلح (الشيعة) في قبال مصطلح (أهل السنة) أو (سنة الصحابة)؛ فقد كان بعد بيعة الإمام علي بالخلافة، ورفض كثير من الأنصار المقربين للخلفاء الثلاثة مبايعته، ثم تكرّس التقابل خلال تحضير بعض الصحابة لعملية إسقاط خلافة الإمام علي عسكرياً، والتي أحبطها الإمام علي في البصرة خلال الحرب التي عرفت بحرب الجمل. وهي المحاولة التي قسمت المسلمين ميدانياً وجغرافياً، ولأول مرة في تاريخهم، إلى قسمين: (شيعة علي) و(سنة الخلفاء)؛ إذ لم هناك انقسام ميداني جغرافي للمسلمين خلال عهد الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان؛ بسبب الموقف الشرعي المسؤول للإمام علي، والذي عبّر عنه بقوله: ((والله لأسالمن ما سلمت إليه أمور المسلمين))(5)، وهو الموقف الذي منع الشيعة من القيام بأي عمل ميداني معارض أو تحرك مسلح ضد سلطة الخلافة ونظام الدولة، رغم أنهم كانوا أقوياء ومنتشرون بكثافة، وخاصة في الكوفة والبصرة والمدائن، بل كانوا متعاونين مع السلطة في أغلب الأحايين، وخاصة خلال خلافتي أبي بكر وعمر، وكان عدد منهم ولاة في الدولة وقادة في الجيش، وأبرزهم سلمان الفارسي الذي كان والي المدائن في زمن خلافة عمر بن الخطاب، وبموافقة الإمام علي؛ لوجود مصلحة إسلامية عليا، فضلاً عن أن الإمام علي نفسه كان يعطي المشورة والنصيحة للخلفاء الثلاثة والولاة، لما فيه المصلحة العليا للمسلمين.
ولكن تغيّرت هذه المعادلة بعد تسنم الإمام علي الخلافة؛ إذ انقلب كثير من أنصار الخلفاء الثلاثة على الخليفة الجديد، وتمردوا عليه، وقادوا محاولات عسكرية لقلب نظام حكمه، وفي مقدمتهم طلحة بن عمرو والزبير بن العوام وعائشة بنت أبي أبي بكر ومعاوية بن أبي سفيان ومروان بن الحكم، وهو ما جعل مصطلحي (شيعة علي) مقابل (أتباع الخلفاء) أو (أهل سنة الخلفاء)، أمراً شديد الواقعية.
ب- مصطلح (السنة):
لعبت واقعة اجتماع شورى الستة التي شكلها الخليفة عمر قبل وفاته، دوراً مهماً في بلورة مفهوم (أهل السنة)، حين اشترط بعض أعضاء الشورى على الإمام علي بأن تتم مبايعته على سنّة رسول الله وسيرة الشيخين، لكنه رفض إشراك سنة رسول الله مع سيرة الشيخين، وأنه سيعمل بسنة رسول الله فقط دون سيرة الشيخين؛ في حين قبل به عثمان بن عفان الشرط وتم اختياره بناء عليه. وبالتالي؛ مثّل شرط (سيرة الشيخين) هوية الجماعة التي تقابل (شيعة علي)، التي تميزت بحصر الاقتداء بالنبي، وعدم اشراك الخلفاء والصحابة معه. وبعد انتخاب الإمام علي للخلافة، ثم رفض بعض الصحابة مبايعة، وتمرد آخرين عسكرياً عليه؛ تبلورت دلالة هذا الشرط موضوعياً؛ فبات الفريق غير المبايع والمتمرد، وكذلك الفريق الذي وقف على الحياد؛ هم سنة الخلفاء، مقابل الفريق الذي كان مع الإمام علي، وهم شيعته.
وقد ساهمت أحداث العصرين الأُموي والعباسي، في بلورة مفهومي (الشيعة) و(السنة)، للدلالة على منظومتين مختلفتين، عقيدياً وفقهياً، وسياسياً واجتماعياً، رغم أنّ تسميتي الشيعة والسنّة، كما حرّف الأمويون دلالتهما، لا تعبِّران عن حقيقة علمية وواقعية؛ فاستخدام المصطلحات والتسميات في تلك الحقبة، لم يكن واقعياً ومتجرداً، بل يخضع للمزاج الفكري والميل السياسي والتعصب الطائفي؛ فمصطلح (أهل السنة)، الذي يدل أساساً على (سنة الخلفاء)، أُريد منه أنّ الفئة التي تقابل الشيعة هم المتمسكون بسنّة الرسول، وأن الشيعة يرفضونها، لأنّهم يعتقدون أنّ علي بن أبي طالب أولى بالنبوة من الرسول محمد. ثم أُطلق مصطلح (الرافضة) أو (الروافض) على أتباع أهل البيت؛ فصار مرادفاً للشيعة؛ لأنّهم رفضوا شرعية اعتبار أن يكون الإمام علي خليفة رابعاً، كما نسب إلى الذين رفضوا بيعة السيد زيد بن علي بالإمامة. وهكذا كان التلاعب السياسي المزاجي بالألفاظ والمصطلحات، يجر بالضرورة إلى أفكار وتصورات وأحكام تفرض على تلك المصطلحات بالقوة والفعل، وكان يراد بذلك تعميق الفرقة في صفوف المسلمين، ومن ذلك الانتساب إلى المذاهب بأسماء مؤسسيها.
وتم تعزيز دلالة مصطلح (السنّة) على السنة النبوية، من خلال أحاديث موضوعة، من أهمها حديث «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما، لن تضلوا بعدي أبدا؛ كتاب الله وسنّتي»، وهذا الحديث لم يروه أحد من الصحابة، ولا وجود له في صحاح أهل السنة، ويتفق أغلب محدثي السنة على بطلانه، لكنهم يحتجون به لصحة معناه ومضمونه، بينما يخطئون حديث (عترتي) رغم إجماعهم على صحته، وهو تخريج طريف؛ إذ يقول بعض علمائهم: «حتى لو لم يرد حديث (كتاب الله وسنتي)؛ فإن معناه صحيح متفق عليه بخلاف حديث العترة»(6). وهو تحريف لحديث الثقلين عن رسول الله: «كتاب الله وعترتي أهل بيتي»، الذي رواه علي بن أبي طالب، وأبو سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وجُبير بن مُطعم، وحذيفة بن أسيد، وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن حنطب، وغيرهم، بألفاظ مختلفة(7).
وقد تحوّل هذا الاختراع التأسيسي إلى سلاح سياسي طائفي ذكي جداً، انطلى على جمهرة كبيرة من المسلمين. ورغم أن هذه الدلالة بدت مجرد سلاح سياسي إعلامي في معركة آل أمية مع الإمامين الخليفتين علي والحسن، إلّا أنه تغلغل في مفاصل تفكير المسلمين، بفرض السلطة والمصالح؛ حتى تحوّل إلى أحد ثوابت عقيدة أهل السنّة، ولا يزال.
ولم تكتف الدعاية الأُموية بمصادرة دلالة السنة النبوية لمصلحتها، بل أضافت عليها مصطلحاً أكثر خطورة وترهيباً، وهو مصطلح (الجماعة)، المُستخرج بدهاء من بعض الأحاديث النبوية، ومنها «يد الله مع الجماعة»(8)، و«من خرج من الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربق الإسلام من عنقه، إلى أن يرجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثا جهنم… وإن صام وصلى، وزعم أنه مسلم»(9)، و«عليكم بالجماعة، فإن الله لن يجمع أمتي إلا على هدى»(10)؛ ليكون المصطلح المركب الجديد هو (أهل السنة والجماعة).
وراح بعض شيوخ النزعة السلفية في العصر العباسي، والذين يمثّلون ــ غالباً ــ امتدادات للعقيدة السياسية الأُموية، وأبرزهم أحمد ابن تيمية، يكرسون التفسير الأموي السياسي الدعائي المزيف لمفردتي (السنّة) و(الجماعة)، ومصادرتهما لمصلحة مدرسة الخلافة (السنّة)؛ إذ أن مصطلح (الجماعة) هنا يعني جماعة المسلمين أو أمة الإسلام، وبالتالي؛ فإن كل من يقف خارج دائرة (أهل السنّة)؛ فهو خارج جماعة المسلمين تلقائياً، والمقصود بذلك خروج (الشيعة) عن جماعة المسلمين؛ أي أن العقيدة الأُموية لم تكتف برفع غطاء السنّة النبوية عن (الشيعة)، بل أخرجتهم من جماعة المسلمين أيضاً، بعد أن حصرت دلالة (الجماعة) بالطائفة السنّية دون غيرها.
ت- (سنة الخلفاء) و(جماعة الصحابة):
من خلال استقراء الروايات والوقائع التاريخية، يظهر أن المراد الأساس من (السنّة)، هي (سنّة الخلفاء)، وتحديداً الخلفاء الثلاثة (أبو بكر وعمر وعثمان)، وليست سنّة النبي، وهو ما يتطابق مع حقائق تاريخ المسلمين ومسارات الانشقاق الأول في يوم السقيفة، وتداعياته خلال عصر الخلفاء الخمسة (أبو بكر، عمر، عثمان، علي والحسن)، ثم سلاطين بني أمية وبني العباس، والأدلة على ذلك كثيرة، ومن أهمها:
أولاً: إن الانشقاق الذي حدث في واقعة السقيفة في يوم وفاة رسول الله؛ لم يكن انشقاقاً حول سنّة النبي وماهيتها، ولم يكن لسنّة النبي مدخلية في الخلاف، بل كان الخلاف على من هو الأحق بخلافة النبي، صحيح أن بعض الصحابة احتجوا بسنة النبي في إثبات أحقية الإمام علي في استخلاف رسول الله، لكن الصحابة الأخرون الذين يقودهم أبو بكر وعمر لم يحتجوا بسنة الرسول، بل عملوا بكل قوة على تجنب الحديث عنها، وتحويل الخلافة إلى إرادة بشرية تتعلق برأي المسلمين وليس بسنّة النبي. وهكذا قال قسم من المسلمين إن علياً هو أحق بالخلافة، بناءً على وصية رسول الله وتأكيداته في عشرات المناسبات، أي بناءً على سنّة رسول الله، وهؤلاء عرفوا بـ (شيعة علي)، بينما رأى آخرون أن أبا بكر هو أجدر بالخلافة، بناء على اقتراح عمر بن الخطاب، وعرفوا فيما بعد بشيعة أبي بكر أو شيعة الخلفاء أو السائرين على سيرة الخلفاء وسنّتهم، أي أنهم (سنة الخلفاء) مقابل (شيعة علي). وبالتالي؛ لا يوجد أي رابط بين اختيار أبي بكر للخلافة وبين سنّة النبي، ولا يمكن أن يكون من اختار أبي بكر على سنة الرسول، أي سنيّاً، وأن من رفضه ليس على سنّة الرسول.
ثانياً: تحوّلت وصية الخليفة الأول أبي بكر بأن يكون عمر خليفة المسلمين من بعده، إلى سنّة من سنن الوصول الى الخلافة، والتي استثمرها الأمويون والعباسيون وغيرهم؛ فبات الخليفة يوصي لمن بعده؛ لكي لا يقال أن الخلافة باتت سلطة ملكية وراثية، بل هي وصية من الخليفة الميت لمن يلي الأمور من بعده، وذلك اتباعاً لسنّة الخليفة الأول أبي بكر. وهذا يثبت بما لا شك فيه إن السنّة هنا هي سنّة الخلفاء وليست سنّة النبي.
ثالثاً: كان الشرط المتداول خلال حوارات شورى الستة التي نصّبها الخليفة عمر، لتختار خليفته بعد وفاته، هو أن تكون بيعة الخليفة الجديد مقترنة بتمسكه بسيرة الشيخين، أي سنّة الخليفتين أبي بكر وعمر، وهو ما رفضه الإمام علي بن أبي طالب عندما طالبه أعضاء الشورى بالالتزام بهذا الشرط مقابل اختياره خليفة، وأصر على الاكتفاء بالتمسك بسنة رسول الله. وفي المقابل وافق عثمان بن عفان على الشرط، وهذه الواقعة تعني بوضوح أن موضوع الخلاف بين الفريقين هو سنّة الخلفاء وليس سنّة النبي.
رابعاً: إن سنّة الخلفاء؛ تحولت بمرور الزمان، من سيرة بشرية إلى سنّة مقدسة، تقترب في حجِّيتها من حجية سنة رسول الله، كما ورد في الحديث الموضوع عن النبي: «من يعش منكم فسيرى اختلافا كثير فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعَضّو عليها بالنواجذ»(11)، وهو حديث مفصّل بدقة على مقاس ما حدث بعد رحيل رسول الله، فضلاً عن أنه يتضمن إشارة إلى أن المراد من السنّة هي سنّة الخلفاء الراشدين، وإن قرنها بسنّة النبي. ولم يكتف الوضّاعون بذلك، بل حولوا سيرة كل صحابي إلى سنّة يجب الاقتداء بها، وليس سنّة الخلفاء وحسب، بمعنى أن سيرة الصحابي هي مصدر تشريعي يمكن الاحتجاج به، بناء على الحديث الموضوع أيضاً: «أصحابي كنجوم السماء؛ بأيهم اقتديتم اهتديتم»، برغم أن محدثي أهل السنة، يجمعون على عدم صحة الحديث، وأن روايته ساقطة(12).
خامساً: إن عداء آل آمية وآل العباس لأئمة آل البيت لم يكن موضوعه سنّة النبي، بل لأن الأمويين والعباسيين كانوا يحتجون بسنّة الخلفاء في مواجهة آل البيت وشيعتهم، في حين كان أئمة آل البيت يدعون الى عدم إشراك أية سنّة بشرية أخرى مع سنّة رسول الله، في الاحتكام بقضايا الخلاف العقدي والسياسي بين المسلمين، أي أن بني أمية وبني العباس وعلماء المذاهب الإسلامية الأخرى كانوا يحتجون بسنّة الخلفاء والصحابة وسيرتهم، بينما يحتج أئمة آل البيت بسنّة النبي.
سادساً: ظل سؤال أغلب الصراعات المذهبية والطائفية، منذ وفاة رسول الله وحتى اليوم، يتمحور حول من هو الأحق بخلافة الرسول؟ هل هو علي وأبناؤه؟ أم أبو بكر وعمر وعثمان وسلاطين آل أمية وآل العباس؟ ويعني ذلك أن الصراع هو بين أتباع الأئمة من جهة وأتباع الخلفاء من جهة أخرى، وليس بين أتباع النبي وأتباع الأئمة.
وعند التعمق أكثر في الحقيقة التاريخية؛ سنجد أن سنّة رسول الله كانت ــ بالنسبة للشيعة ــ هو موضوع الخلاف الحصري في يوم السقيفة، وليس مجرد الخلاف على من سيخلف النبي في قيادة المسلمين، رغم أن ظاهر الانقسام كان حول موضوع الخلافة؛ ذلك لأن شيعة علي احتجّوا بسنّة رسول الله في أحقية الإمام علي بالخلافة، بينما رأي أنصار أبي بكر أن وصية النبي لا تدلّ على ذلك، وأن الأمر متروك لخيارات المسلمين. وهنا؛ كان الجدال بين من يتمسك بسنّة رسول الله، وهم شيعة علي، وبين من يتمسك بخيارات نخبة (خواص) المسلمين، وهم أنصار أبي بكر وعمر؛ ما يعني بوضوح أن شيعة علي كانوا هم دعاة التمسك بالسنّة النبوية، بينما كان الفريق الآخر يدعو إلى التمسك بخيارات خواص المسلمين، وهي الخيارات التي تحولت فيما بعد الى جزء من مبادئ سنة الخلفاء في اختيار الحاكم الأعلى أو الخليفة.
وقد استمر الخلاف- فيما بعد – بين (شيعة علي) و(سنة الخلفاء) على موضوع التمسك بسنّة رسول الله؛ فبقي المسلمون الشيعة مصرين على سنّة النبي المتجسدة في وصيته لعلي وأبنائه الأئمة، وبقي القسم الآخر من المسلمين مصراً على صحة خيارات الخلفاء، وهم أهل (سنة الخلفاء)؛ ما يدل – مرة أخرى – على أن (الشيعة) هم أهل سنة الرسول أو أهل السنة بالمعنى الواقعي؛ لأنهم تمسكوا بسنة الرسول حين وقع الخلاف، وأن أهل السنّة والجماعة – بالمعنى الاصطلاحي السائد – هم سنة الخلفاء وجماعة الصحابة.
الخلاصة؛ أنّ مصطلح (السنّة) مقترنٌ بالخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان، ومصطلح (الجماعة) مقترنٌ بالصحابة، ويعني ذلك أن أهل السنة هم أتباع الخلفاء وجماعة الصحابة، مقابل الشيعة الذي هم أتباع الإمام علي وجماعة آل البيت. وهذه الدلالات الواقعية ليس فيها طعنٌ بعقيدة السنة والشيعة أو انتقاصٌ من انتمائهم للإسلام وجماعة المسلمين. فتمسُّك أهل السنّة بسنّة الخلفاء والصحابة لا يعني أنهم لا يؤمنون بسنّة الرسول، وأن رفضهم الإمامة الدينية للإمام علي وكونه الخليفة الزمني بعد رسول الله، لا يعني أنهم لا يحبون الإمام علي ولا يعترفون بكونه خليفة رسول الله الرابع. كما أن تسمّي الشيعة بشيعة علي لا يعني أنهم لا يتمسكون بسنة الرسول، إنما تمسكهم بسنّة رسول الله الذي أمر المسلمين بالتولي لعلي من بعده، هو الذي قادهم ليكونوا شيعة علي.
وبالتالي؛ فإنّ الفرق بين الطائفتين في مجال الرجوع إلى سنة رسول الله، يتلخص في أن الشيعة يرجعون إليها عبر أئمة آل البيت حصراً، وفق ما أمر به رسول الله «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما؛ لن تضلوا بعدي أبدا؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي»، ويرفضون تقديس سنة الخلفاء والصحابة، بينما يرجع أهل سنة الخلفاء إلى سنة رسول الله عبر صحابته، ومن بينهم الخلفاء. ولعل الاستخدام الأقرب إلى الواقع، هو إطلاق تسمية (مدرسة الخلفاء) على المدرسة الإسلامية(13) التي تُعرف تاريخياً بأهل السنة، وإطلاق تسمية (مدرسة أهل البيت) أو (مدرسة الإمامة) على الشيعة. والمدرسة هنا تعني مجموعة الأفكار والنظريات والمعتقدات التي تشكل منظومة أوسع من المذهب والفرقة والتيار والحزب والجماعة.
أئمة آل البيت حالوا دون تحوّل (سنة الخلفاء) إلى (نواصب)
في مرحلة استيلاء معاوية بن أبي سفيان على السلطة في الدولة الإسلامية؛ نجحت المنظومة الأُموية في تنفيذ الجزء الأكبر من مخططها باختطاف الإسلام، وتأسيس عقيدة بديلة جديدة، تحمل في ظاهرها الطقوسي والعقدي اسم الإسلام، لكنها في حقيقتها عقيدة ونظام سياسي وسلوكيات مختلفة، متشبّهة بالنظام المسيحي الثيوقراطي الإمبراطوري الروماني الذي أسسه قسطنطين الأول. وقد تسنى ذلك لمعاوية وآل أُميّة عبر موجات الوضع في الحديث النبوي، وتأسيس الملكية الوراثية المطلقة، واستخدام سلوكيات الترغيب والترهيب ضد المسلمين، وبناء مجتمع أُموي موالي في الشام، وقمع الأُسرة النبوية المكلّفة بخلافة رسول الله، والعمل على تهميش دورها حتى في البعد الديني.
العملية الأساس الأُولى التي مثّلت جدار الصد لعملية الاختطاف الأُموي للإسلام؛ كانت نهضة الإمام الحسين بن علي، وما أعقبها من ثورات على خطاها، وأهمها ثورة التوابين وثورة المختار الثقفي وثورة زيد بن علي وثورات العلويين وأتباع آل البيت اللاحقة.
أمّا العملية الأساس الثانية فتمثلت في المواجهة العلمية والدينية والتبليغية التي قام به أئمة آل البيت لمخطط اختطاف الإسلام، والتي تألقت في عصر الإمامين الباقر والصادق، والذي شهد أيضاً ظهور محدّثين فقهاء كبار في المدينة والكوفة، ينتمون إلى مدرسة الخلافة (السنية)؛ عملوا على الابتعاد عن المنهج الحديثي والعقدي والفقهي الأُموي، وتأصيل فقه مدرسة الخلافة بما ينسجم مع الكليات العامة للإسلام، خاصة أنّ كثيراً منهم درس عند الإمامين الباقر والصادق. وقد تبلورت هذه منظومة سنية عقيدياً وفقهياً خلال القرن الأول من الحكم العباسي تنتمي إلى مدرسة الخلافة، والذي يمثل نفسه هذه المنظومة، إذ رفضت هذه المنظومة كثيراً من قواعد الآيديولوجية الأُموية وسلوكياتها، ومنها مناصبة آل البيت العداء، لكنها كانت تقمع البيت النبوي وآل البيت بشدة إذا ما أحسّت بأي تهديد، ولو كان وهمياً، وبالتالي، فهي كانت تمارس ضد آل البيت سلوكاً سياسياً تجاه ما تفترضه معارضةً سياسيةً لحكمها، وليس سلوكاً عقيدياً اجتثاثياً ناصبياً.
وقد كان نتاج مواجهة أئمة آل البيت لمؤامرة المنظومة الأُموية؛ الحيلولة دون تمكينها من اختطاف الإسلام بشكل كامل. كما أدى وقوف آل البيت بوجه الانحراف العباسي وممارساته القمعية؛ إلى الحيلولة دون سقوط المسلمين كافة في شرك الواقع العباسي. وبالتالي؛ أدى مسار الصراع السياسي والعقدي بين المنظومات الثلاث: النبوية والأُموية والعباسية، إلى تجذّر الانقسام بين المسلمين نظرياً وعملياً، وتبلوره نهائياً في ثلاث شرائح، لا تزال قائمة حتى الآن:
الشريحة الأُولى: اختارت التمسك عقيدياً وروحياً واجتماعياً وسياسياً بمدرسة آل البيت النبوي، وأخذت عنوان: (التشيع)، وهي مدرسة (الإمامة) الشيعية، وكان يمثلها ويقودها رسمياً الأئمة الاثني عشر من آل البيت، وبات الإمام جعفر الصادق يمثل رمزيتها العقيدية والفقهية والاجتماعية، ثم أصبح لها بالتدريج كياناتها العلمية الدينية، كالمدينة والكوفة وبغداد وقم والنجف، والاجتماعية، في أغلب البلدان الإسلامية، والسياسية، ممثلة بدولتي الإمام علي والإمام الحسن، ثم الدول التابعة والمنتسبة لهذه الشريحة في إيران والعراق والشام ومصر والمغرب العربي والهند. أمّا اليوم فتنتمي إليها دولة واحدة فقط هي إيران، إضافة إلى أجزاء أساسية من أنظمة العراق ولبنان واليمن. كما تعد النجف وقم أبرز من يمثل هذه الشريحة من الناحية العلمية ـ الدينية.
الشريحة الثانية: اختارت الانخراط عقديا وسلوكياً وسياسياً بمدرسة آل أُميّة، وأخذت عنوان (النصب)، أي العداء للإسلام الأصيل المتمثل بآل البيت، وصولاً إلى انبثاق العقيدة التكفيرية السلفية لابن تيمية أحمد بن عبد الحليم، وكان وجودها السياسي التأسيسي متمثلاً بالدولة الأُموية، ثم بعض الدول الفرعية للدولة العباسية، وتحديداً دولة صلاح الدين الأيوبي. أمّا أبرز مصاديقها اليوم؛ فهي الفرقة (الوهابية) ومؤسستها الدينية الحاكمة في الدولة السعودية، والتي كرّست عقيدة التكفير كوجه آخر لعقيدة النصب، وكيانها السياسي المتمثل بالدولة السعودية، إضافة إلى الكيانات السياسية المؤقتة، التي حكمتها تنظيمات (القاعدة) و(طالبان) و(داعش). كما يمثلها من الناحية الطائفية ـ السياسية حزب البعث العراقي، وتحديداً التيار الذي سيطر على الحزب بعد العام 1979.
الشريحة الثالثة: اختارت الحياد بين المنظومة الأُموية ومدرسة آل البيت، وفضّلت التمسك بما أسمته سيرة الخلفاء الراشدين والصحابة، أي أنّها لم تأخذ بعقيدة الإمامة وفقه آل البيت ولا بعقيدة آل أُميّة ومنهج النصب والتكفير، وحملت عنوان (التسنن) بمرور الزمن، وهي مدرسة (الخلافة) أو (أهل السنة)، والتي عبّر عنها فقهاء ومحدّثون وعلماء كلام مؤسسون، كالأشعري والإمام مالك والإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي والإمام الظاهري. ولعل أكثر الكيانات السياسية تعبيراً عنها هي الدولة العباسية ثم العثمانية، ثم البلدان الإسلامية وأنظمتها في الوقت الحاضر. وتعد مؤسسة الأزهر في مصر المؤسسة الدينية العلمية الأكثر تعبيراً عن عقيدة هذه الشريحة وفقهها.
خطورة الخلط بين (السنة) و(النواصب)
لكي نكون أكثر التصاقاً بالحقيقة؛ فإنّ مدرسة (أهل السنة) كانت ولا تزال منحازة لآل البيت عاطفياً، ولا تخفي حبّها لهم، لكنها عقيدياً وفقهياً لا تتبعهم؛ بل تتبع فقهاء ومتكلمين آخرين من مدرسة (الخلافة)، كالأشعري والماتريدي وأبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل، وهذا هو ما يميزها عن مدرسة (التشيع) ومدرسة (النصب) والتكفير. أي أنّها مدرسة بين المدرستين. لكن هذه المدرسة ـ كما ذكرنا ـ لا تتردد عن ممارسة القمع ضد مدرسة آل البيت وأتباعها، عند الإحساس بأي تهديد عقدي وسياسي، وإن كان وهمياً، مع الأخذ بالاعتبار أنّ هذا القمع لا يتم على خلفية عقيدة النصب والتكفير، بل على خلفية طائفية ــ سياسية غالباً.
وعندما نتحدث عن مدرسة النصب لآل البيت وتكفير من لم يعتقد بأفكارها؛ فإنّما نقصد الجانب العقدي والسلوك العقدي لهذه المدرسة غالباً. صحيح أنّ جذور عقيدة هذه المدرسة وفقهها يعودان إلى الإمام أحمد بن حنبل، الذي يعد مؤسس مذهب فقهي وكلامي، مستقل فقهياً عن المذاهب السنية التي سبقته، وعن الفرق الكلامية كالأشاعرة والماتريدية والظاهرية، وكانت فرقته تعرف آنذاك بـ (الأثرية)، وهي تتشبه بالفرقة (الحشوية)، ثم استقرت فيما بعد على اسم (السلفية)؛ بيد أنّ بعض شيوخ الفرقة الأثرية السلفية، انحرف بالتدريج عن عقيدة ابن حنبل في موقفها من آل البيت، حتى جاء ابن تيمية، وهو حنبلي أساساً، لكنه كان زعيماً لإحدى الجماعات المنحرفة المنسوبة إلى الحنبلية السلفية؛ ليعيد الحياة لعقيدة آل أُميّة، ويعلن مذهب التكفير والنصب، ولا سيما عبر كتابه (منهاج السنة النبوية)، ثم عمّق هذا المعتقد محمد بن عبد الوهاب المتحالف مع محمد بن سعود، وبات سلطة فتّاكة بيد الدولة الوهابية السعودية لمحاربة آل البيت وتكفير أتباعهم.
لذلك؛ ينبغي أن يتنبه أتباع مدرسة آل البيت إلى أهمية عدم الخلط بين مدرسة (السنة) والخلافة وبين مدرسة (النصب) والتكفير؛ لأنّهما مدرستان مختلفتان، بل متعارضتان في كثير من المسائل العقيدية، وفي النظرة لآل البيت وللشيعة، وفي المنهج التربوي والسلوك الاعتقادي، وفي تفسير التاريخ. كما ينبغي الحذر الشديد من أي كلام أو سلوك يدفعان أتباع المذاهب السنية إلى الارتماء في أحضان مدرسة (النصب) والتكفير؛ لأنّ أهم هدف لهذه المدرسة هو تنصيب نفسها مدافِعاً عن أهل السنة وناطقاً باسمهم، واستقطاب أكبر عدد ممكن من أتباع المدرسة السنية، وتحويلهم إلى أعداء للشيعة، وأدوات لتدمير الواقع الإسلامي برمته، عبر إقناعهم بالعقيدة الأُموية التيمية الوهابية.
دور ابن تيمية في بلورة عقيدة (النصب) لأهل البيت
يمكن القول إنّ الشيخ أحمد ابن تيمية هو الذي بلور مدرسة النصب نظرياً، وأعطاها بعداً عقيدياً وفقهياً، بوصفها امتداداً للعقيدة الأُموية؛ فقد ذكر ابن حجر العسقلاني في ترجمته: «وقال في حقّ علي: أخطأ في سبعة عشر شيئاً ثم خالف فيها نص الكتاب… وحُبس مراراً فأقام على ذلك نحو أربع سنين أو أكثر… فمنهم من نسبه إلى التجسيم… ومنهم من ينسبه إلى الزندقة… ومنهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في علي ما تقدّم، ولقوله: إنّه كان مخذولاً حيث ما توجّه، وإنّه حاول الخلافة مراراً فلم ينلها، وإنّما قاتل للرئاسة لا للديانة، ولقوله: إنّه كان يحبّ الرئاسة… وعلي أسلم صبياً، والصبي لا يصح إسلامه… حتى قام عليه [يعني على ابن تيمية] خلق من العلماء بالمصرين [يعني مصر والشام] فبدّعوه»(14).
وقال العلوي بن طاهر الحداد بشأن نصب ابن تيمية: «وفي منهاجه، من السب والذم الموجّه المورد في قالب المعاريض ومقدمات الأدلة في أمير المؤمنين علي والزهراء البتول والحسنين وذريتهم، ما تقشعر منه الجلود وترجف له القلوب، ولا سبب لعكوف النواصب والخوارج على كتابه المذكور إلّا كونه يضرب على أوتارهم ويتردد على أطلالهم وآثارهم»(15).
وقد دوّن ابن تيمية عدداً من النصوص في هذا المجال: «وليس علينا أن نبايع عاجزاً عن العدل علينا ولا تاركاً له، فأئمة السنة يسلّمون أنّه ما كان القتال مأموراً به لا واجباً ولا مستحبّاً»(16)، وكذلك: «وإن لم يكن علي مأموراً بقتالهم ولا كان فرضاً عليه قتالهم بمجرد امتناعهم عن طاعته مع كونهم ملتزمين شرائع الإسلام»(17).
كما يذكر أنّ قتال علي في صفّين والجمل كان بالرأي، ولم يكن علي مأموراً بذلك: «فلا رأي أعظم ذمّاً من رأي أُريق به دم أُلوف مؤلفة من المسلمين، ولم يحصل بقتلهم مصلحة للمسلمين لا في دينهم ولا في دنياهم، بل نقص الخير عمّا كان وزاد الشر على ما كان»(18)، ويقول: «وأمّا الإجماع فقد تخلَّف عن بيعته والقتال معه نصف الأُمّة أو أقل أو أكثر، والنصوص الثابتة عن النبيّ تقتضي أنّ ترك القتال كان خيراً للطائفتين، وأنّ القعود عن القتال كان خيراً من القيام فيه، وأنّ عليّاً مع كونه أولى بالحق من معاوية لو ترك القتال لكان أفضل وأصلح وخيراً»(19)، ويقول: «والمقصود هنا أنّ ما يُعتذر به عن علي فيما أُنكر عليه يُعتذر بأقوى منه في عثمان، فإنّ عليّاً قاتل على الولاية وقُتل بسبب ذلك خلق كثير عظيم، ولم يحصل في ولايته لا قتال للكفار ولا فتح لبلادهم ولا كان المسلمون في زيادة خير»(20).
ويتابع ابن تيمية موقفه من علي فيقول: «ولم يكن كذلك علي فإنّ كثيراً من الصحابة والتابعين كانوا يبغضونه ويسبونه ويقاتلونه»(21)، ويقول: «والذي عليه أكابر الصحابة والتابعين أنّ قتال الجمل وصفين لم يكن من القتال المأمور به، وأنّ تركه أفضل من الدخول فيه، بل عدُّوه قتال فتنة، وعلى هذا جمهور أهل الحديث وجمهور أئمة الفقهاء»(22)، ويقول: «ولهذا كان علماء الأمصار على أنّ القتال كان قتال فتنة، وكان من قعد عنه أفضل ممن قاتل فيه، وهذا مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة والأوزاعي بل والثوري ومن لا يحصى عدده»(23)، ويقول: «وخلافة علي اختلف فيها أهل القبلة، ولم يكن فيها زيادة قوة للمسلمين ولا قهر ونقص للكافرين»(24).
وبشأن تشكيكه في إسلام الإمام علي يقول ما نصه: «وعلي يثبت له حكم الكفر والإيمان وهو دون البلوغ، والصبي المولود بين أبوين كافرين يجري عليه حكم الكفر في الدنيا باتفاق المسلمين، وإذا أسلم قبل البلوغ على قولين للعلماء، بخلاف البالغ فإنّه يصير مسلماً باتفاق المسلمين، وكان إسلام الثلاثة مخرجاً لهم من الكفر باتفاق المسلمين، وأمّا إسلام علي فهل يكون مخرجاً له من الكفر على قولين مشهورين، ومذهب الشافعي أنّ إسلام الصبي غير مخرج له من الكفر»(25). وقال أيضاً في منهاجه ما هذا نصه: «وقد أنزل الله تعالى في علي: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}(26)، لما صلى فقرأ وخلط»(27).
ولعل جزءاً مهماً من خديعة الفرقة التيمية الوهابية؛ زعمها أنّها تمثل مذهب أحمد بن حنبل وفرقته السلفية الأثرية، وأنّها جماعة سنية مجدِّدة، وليست فرقة مستقلة عن أهل السنة، لكن هذا الزعم يخالف الواقع، ودليل ذلك تصنيف ابن تيمية نفسه، الذي يؤكد بأنّ مصطلح أهل السنة ينطبق على الفرقة السلفية حصراً، وليس على المذاهب الأُخر التي تدّعي الانتساب لأهل السنة، كالمالكية والحنفية والشافعية؛ إذ يقول بأنّ المراد من لفظ أهل السنة معنيان: الأول: هو ما يقابل الشيعة (الرافضة)، وتدخل فيه كل طوائف المسلمين المعترفين بخلافة الخلفاء الثلاثة، كالأشاعرة والماتريدية والمعتزلة والإباضية، وحتى الصوفية، والثاني: المعنى الخاص، ولا تدخل فيه الطوائف السابقة إنّما هو خاص بالسلفية، ويعبِّر عنهم بـ (أهل الحديث)(28).
محاور الخلاف والاتفاق بين الشيعة والسنة
من أجل الحيلولة دون الخلط بين الآيديولوجيات الناصبية من جهة والفرق والمذاهب السنّية من جهة أخرى، نلخِّص مساحات الاختلاف والاشتراك بينها وبين التشيع وطوائفه، في ستة محاور أساسية:
1ـــ الإمامة والخلافة:
بدأ الخلاف بين المسلمين حول موضوع خلافة رسول الله فور وفاته، وهو أساس انشقاق المسلمين؛ فقد ذهبت جماعة من المسلمين الى اختيار أحد الصحابة قائداً للمسلمين وللدولة الإسلامية، خلفاً للنبي، وأطلقت عليه لقب (الخليفة)، وهي مدرسة الخلافة التي ـ تلخصت فيما بعد ـ بمدرسة أهل السنة، بينما أصرت جماعة أُخرى على النص النبوي في إمامة علي بن أبي طالب، ليس بوصفه الخلف السياسي للرسول وحسب، بل الديني والسياسي؛ لأنّ الإمام ـ في العقيدة الشيعية ـ هو امتداد ديني ودنيوي للنبي، وهي مدرسة الإمامة التي تلخصت بمدرسة الشيعة. وليس الخلاف هنا يتعلق بموضوع سياسي أو يتعلق بالسلطة، كما تذهب المدرسة السنية، بل هي قضية عقيدية تتعلق بالتمسك بنص الرسول على علي وولده كأئمة للمسلمين من بعده، وبالتالي؛ فالخلافة عند السنة هي موضوع سياسي وزمني، وعند الشيعة موضوع عقدي.
ويرى الشيعة أنّ شروطاً أساسية ينبغي توافرها في إمام المسلمين، أهمها: النص، والأعلمية، والعدالة، في حياة الأئمة الاثني عشر، ثم الفقاهة والعدالة والكفاءة بعد نهاية عصرهم. بينما لا يراها أهل السنة شروطاً إلزامية في خليفة رسول الله، بل يرتضون بالسلطان الذي يأتي بالوراثة (ولاية العهد) أو بالحرب وبالانقلاب (الغلبة) أو الانتخاب الخاص (بالشورى الخاصة)، أو الوصية من الخليفة الذي يسبقه، وإن كان هذا السلطان فاقداً لكل شروط الأهلية لهذا المنصب الخطير، ومثال ذلك سلاطين الأُمويين والعباسيين والعثمانيين.
2ـــ اُصول الدين:
وهي الإطار النظري العقدي للخلاف بين السنة والشيعة، فالشيعة يضعون الإمامة أصلاً من أُصول الدين، إضافة إلى التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، والسنة يكتفون بثلاثة أُصول هي التوحيد والنبوة والمعاد. ويذهب الشيعة إلى أنّ عدم الإيمان بأصل الإمامة لا يخرج المسلم من ملة الإسلام، ولذلك؛ قالوا بأنّ العدل والإمامة هما من أُصول المذهب. ويترتب على أصل الإمامة عند الشيعة كثير من القضايا العملية، كونه امتداد ديني لأصل النبوة، ويكتمل الإيمان به، وأهمها الاعتقاد بإمامة علي وولده الأحد عشر، بالنص والاسم، وكونهم أصحاب الحق بقيادة المسلمين الدينية والسياسية وبرئاسة الدولة الإسلامية، وكذلك بعصمة هؤلاء الأئمة ومنزلتهم التشريعية والتكوينية الخاصة.
3ـــ فروع الدين:
وهي الخلافات المرتبطة بمجال العبادات والمعاملات، فالمسلمون جميعاً يتفقون على الصلوات الخمس بالكيفية نفسها، والاتجاه خلالها نحو الكعبة في مكة، وصوم شهر رمضان، والزكاة، والحج إلى بيت الله، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكنهم يختلفون في تشريع الخمس، الذي يحصره أهل السنة في غنائم الحرب في عصر الرسول، بينما يعده الشيعة فرعاً مستمراً لما بعد عصر الرسول، وشاملاً لكل الأرباح، شأنه شأن الزكاة.
وهناك أيضاً فرعان يعدهما الشيعة من فروع المذهب، هما الولاء لأهل البيت والبراءة من أعدائهم، وهما التشريعان المتفرعان عن أصل الإمامة.
ويتفق الشيعة والسنة على الكثير من مسائل أبواب الفقه، وإن اختلفوا في جزئياتها، وهذا الاختلاف حاصل بين مذاهب أهل السنة نفسها، كما يتفقون على أنّ من أنكر أصلاً أو فرعاً ثبت بضرورة الشريعة، فإنّه ليس بمسلم، وكذا من استحل إحدى المحرمات الأساس، كمعظم النجاسات، ومنها الخمر، والفقاع، والخنزير، والميسر، والزنا، والسرقة، والكذب، والقتل ـ دون حق ـ وغيرها، فهو غير مسلم، وينبغي الإشارة إلى أنّ الإنكار والإجحاد يختلفان عن المعصية، فالمعصية، وإن اختلف علماء العقيدة في نوعها وحجمها، لا تستوجب الكفر والخروج عن ملة الإسلام.
4ـــ اُصول التشريع والاجتهاد:
يتفق المسلمون، سنة وشيعة، على أنّ القرآن الكريم هو المصدر الأول في التشريع، وهو القرآن الموجود بين أيدينا الآن، دون زيادة ولا نقصان، مع وجود روايات لدى بعض محدثي السنة والشيعة على وجود كلمات وآيات تمّ تغييرها أو تغيرت بالنسخ، والقائلون بهذه الروايات والمنقولات محدودون ولا يعوّل على آرائهم؛ إذ إنّ ما يشبه إجماع علماء الفريقين هو على عدم وجود أي زيادة أو نقصان في القرآن الموجود حالياً بين أيدي المسلمين، فضلاً عن الاختلافات حول تفسير بعض آياته وأسباب النزول.
كما يتفقون على أنّ السنة النبوية هي المصدر الثاني في التشريع، لكنهم يختلفون في رواة السنة النبوية وأسانيدها وطرق ثبوتها، فأهل السنة يأخذون الحديث عمن صحت روايته عندهم، بينما يقصر الشيعة الرواية على أئمة آل البيت، عن جدهم المصطفى، بواسطة ثقات الرواة وحسب، وأنّ سنتهم امتداد لسنة الرسول، أي أنّها جزء من أصل التشريع الثاني.
أمّا الأصل الثالث، أي الإجماع، فهناك اتفاق حوله، لكن الشيعة يشترطون أن يكون كاشفاً لرأي المعصوم.
ويضع أهل السنة مصادر أُخر، كالقياس والاستحسان وسنة الصحابي، بينما يرفضها الشيعة، ويضعون العقل مصدراً رابعاً للتشريع، أو بمعنى أدق مصدراً كاشفاً عن رأي الشريعة، وليس مصدراً مستقلاً للتشريع(29). كما لا يأخذ الشيعة بسير الصحابة كمصدر تشريعي، ويعدونها سيراً شخصية متعارضة، ولا يمكن أن تكون جزءاً من الدين.
5ـــ السياسة والتاريخ:
يختلف السنة والشيعة في النظر إلى والوقائع التي حفل بها تاريخ المسلمين، وأبرزها الخلاف حول كثير من أحداث التاريخ وسلوكيات بعض الصحابة، فالشيعة لا يعدّونهم جميعاً عدولاً، بل رجال أصابوا وأخطأوا، بل تقاتلوا، وفسّقوا بعضهم، وكذلك شرعية وسلوكيات السلاطين الأُمويين والعباسيين، فأهل السنة يعتقدون بشرعية هؤلاء السلاطين، ويعدّونهم خلفاء لرسول الله، ويمتدحونهم، ويعدّون غزواتهم السلطوية فتوحات من أجل نشر الإسلام. بينما يرفض الشيعة أن يكون هؤلاء خلفاء لرسول الله؛ لأنّهم يفتقدون إلى أدنى شروط الأهلية لتمثيل الإسلام وقيادة المسلمين، بل إنّهم اغتصبوا حق أهل البيت في خلافة رسول الله، وقد قتلوا الأئمة وذراريهم وشيعتهم، وارتكبوا كل أنواع الموبقات، وحرفوا مسار المسلمين عن خط الإسلام الأصيل.
6ـــ الاجتماع الديني والسياسي:
وهو الخلاف الذي يدخل في إطار شكل المؤسسة الدينية الاجتماعية لكل من السنة والشيعة وجوهرها، فالمؤسسة الدينية عند أهل السنة، بمحدّثيها، وعلماء كلامها، وفقهائها ومفتيها، ومبلغيها ودعاتها، هي جزء من الدولة، أو بكلمة أدق هي جزء من سلطة الخليفة. كما أنّ الاجتماع السياسي الرسمي لأهل السنة هو جزء من الدولة.
أمّا عند الشيعة، فإنّ الاجتماع الديني والسياسي مستقل تماماً عن الدولة، ويرتبط بالإمام مباشرة، أو بنائب الإمام (الفقيه) بعد عصر الأئمة، وينسحب هذا على القوام المالي للمؤسسة الدينية الاجتماعية، فهو عند أهل السنة يعتمد على الميزانية التي يضعها السلطان، وإنّ علماء الدين السنة يعتمدون عطاء الخليفة في حياتهم المعيشية، أي هم موظفون عند السلطان. بينما تعتمد المؤسسة الدينية الاجتماعية الشيعية على مصادر مالية مستقلة عن الدولة بالكامل، وأهمها الخمس وغيره من الحقوق الشرعية والتبرعات(30).
وينبغي عدم التعامل مع قضايا الخلاف أعلاه(31) تعاملاً سطحياً وعاطفياً وانفعالياً(32)، ودون أفراط أو تفريط، ودون مبالغة وتضخيم وتهويل أو تبسيط وتقليل، وعدم فرض معايير المصالح السياسية والاجتماعية عليها، وخاصة القضايا ذات العلاقة بالشأن العقدي؛ لأنّ التعامل العاطفي الانفعالي أو التعامل المصلحي يُنتجان إفراطاً وتفريطاً، أو تعصباً وانغلاقاً من جهة، وانفلاتاً وعدم اكتراث من جهة أُخرى، والحال؛ أنّ النظرة الصحيحة لهذه الخلافات هي المرونة المعتدلة الواقعية، التي تعطي الأُمور حقها، دون زيادة وتهويل أو نقصان وتهزيل.
ولعل من الأُمور التي يتعامل فيها بعض الشيعة والسنة تعاملاً سطحياً عاطفياً، هي قضية العلاقة بآل البيت؛ فهذا البعض يردد بأنّ السنة يحبون آل البيت أيضاً، وأنّ التاريخ يشهد بذلك، وبالتالي؛ لا فرق في محبة آل البيت بين السنة والشيعة، والحال؛ أنّ الفرق في هذا المجال جوهري وعميق. صحيح أنّ السنة والشيعة (وليس النواصب) يشتركون في حب آل البيت وإجلالهم واحترامهم، إلّا أنّ طبيعة هذا الحب تختلف اختلافاً جوهرياً بين الطرفين؛ فحب السني لآل البيت منشؤه العاطفة، بينما حب الشيعي لآل البيت قاعدته الولاء، وبين الحبين فرق كبير؛ فحين يتغنى السني بالإمام علي والزهراء والحسن والحسين، ويحترم الأئمة الأطهار؛ فإنّه يعبّر عن حب مجرد من الولاء والانتماء العقدي والفقهي، وقد يصل حبه لهم مستوى الدعم السياسي، كما حصل في حقب تاريخية كثيرة، لكنه دعم غير مقترن بالانتماء، بل مقترن بتحسس مظلوميتهم وحقانيتهم الشخصية؛ إذ إنّ عقيدة أهل السنة تفرض على السني أن يجمع بين محبة أهل البيت ومحبة خصومهم وأعدائهم وقاتليهم؛ لأنّها عقيدة قائمة على قاعدة الجمع بين حب آل البيت، وحب جميع الصحابة والخلفاء والسلاطين الأُمويين والعباسيين والأيوبيين، وإن كانوا متخاصمين، وقد قتل بعضهم الآخر، وانحرف قسم منهم عن جادة العقيدة والسلوك الديني، وخرج قسم آخر على خليفة رسول الله الإمام علي وقاتلوه.
وهذا الجمع، عند السني، في الحب بين المتناقضين والمتعارضين، لا يعني أنّه يوالي آل البيت والصحابة معاً وبالمستوى نفسه، بل إنّه يحب آل البيت وأئمتهم، لكنه في الجانب العقدي والفقهي والسياسي، يتبع ويوالي الخلفاء والسلاطين والمحدّثين والمتكلمين والفقهاء الذين يقفون في الجهة المقابلة لأئمة آل البيت، وهي تبعية تصل إلى حد التقديس. ورغم أنّ السني يعترف ـ غالباً ـ بأنّ طريق آل البيت هو الأقرب إلى رسول الله، لكنه ـ في الوقت نفسه ـ يأخذ حديثه من أبي هريرة والبخاري ومسلم، كما يأخذ عقيدته من الأشعري، وفقهه من مالك وأبي حنيفة والشافعي وابن حنبل، ولا يأخذها من الباقر والصادق، وهو تعارض تسمح به العقيدة السنية كما ذكرنا.
أمّا الشيعي؛ فحبه لأهل البيت قائم على أساس عقدي وليس عاطفي وحسب، وهو أساس يفرض على الشيعي أن يتبع أئمة آل البيت في الحديث والعقيدة والفقه والسيرة والسياسة. كما أنّ عقيدة التشيع لا تسمح للشيعي أن يجمع بين الولاء لآل البيت وبين حب خصومهم وأعدائهم وقاتليهم، بل يفرض عليه، هذا الولاء العقيدي الشامل، البراءة من أعدائهم.
وحتى في الاجتماع السياسي والديني؛ فإنّ العقيدة السنية لا ترى تعارضاً بين أن يكون السني محباً لآل البيت ومتعاطفاً معهم ومع مظلوميتهم، وبين أن يكون منتمياً وموالياً للاجتماع السياسي والديني للأنظمة الأُموية والعباسية والأيوبية والعثمانية والسعودية والبعثية التي ذبحت أئمة آل البيت وذراريهم وشيعتهم؛ لأنّ الفقه السياسي السني لديه التكييفات الشرعية والعقلية التي تفرض على السني القبول بهذا التناقض.
ما أودّ قوله في هذا المجال؛ إنّ المصالح الشخصية والسياسية والاجتماعية ينبغي ألّا تدخل في حرف الثوابت العقيدية والفقهية؛ فالشيعة والسنة إخوان في الدين والأوطان والجغرافيا والمصالح، والخلاف بينهم في الجانب العقدي والفقهي خلاف مقبول ومحترم، ولكن ينبغي عدم تكييف هذا الخلاف على أساس المصالح، كما ينبغي ألّا يتحول إلى مادة للصراع السياسي والمجتمعي، وهو اختلاف وتعدد لا يخرج أيّاً من المدرستين عن الإطار العام للإسلام وشرعه، كما يقول الشيخ أبو الحسن الأشعري: «اختلف الناس بعد نبيهم على أشياء كثيرة، ضلّل بعضهم بعضاً، وتبرّأ بعضهم من بعض؛ فصاروا فرقاً متباينين وأحزاباً متشتتين، إلّا أنّ الإسلام يجمعهم ويشتمل عليهم»(33).
بالرغم من المحاولات الحثيثة والمستمرة التي ظلّت بعض التيارات التكفيرية تمارسها من أجل إخراج هذه المدرسة أو تلك عن دائرة الإسلام، تمهيداً لاستئصالها عبر فتاوى إهدار الدم واستباحة الأعراض والأموال، بدلاً من الحوار ومحاولات تقنين الخلاف كلون من ألوان الاعتراف المتبادل بأحقية كل طرف في الاحتفاظ بأحكامه وقضاياه التي يختلف فيها مع الآخر، دون أن يؤدي ذلك إلى الإلغاء والإقصاء والتكفير.
وقد ساهمت السلطات غالباً في دعم تيارات الإقصاء والتكفير بأسباب القوة؛ لتحقيق أهداف سياسية، في مقدمها استئصال المعارضة التي تمثلها الطائفة المختلفة معها مذهبياً، وبذلك؛ تلتقي التيارات التكفيرية مع السلطة عند مصلحة مشتركة عنوانها القضاء على الآخر المذهبي، فقد ظل أتباع أهل البيت الأكثر عرضةً لأشكال الاصطفاف هذه، والتي تستغل الخلاف الكلامي والفقهي والتاريخي لشن حملات التكفير وإهدار الدم؛ الأمر الذي أدى إلى استئصال المجتمعات والكيانات الشيعية استئصالاً كاملاً في كثير من مناطق العالم الإسلامي، كشمال إفريقيا ومصر ومعظم تركيا وبلاد الشام، بالرغم من أنّهم كانوا يمثّلون وجودات غاية في القوة وسعة الانتشار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحالات
أُنظر: ابن عساكر الشافعي، «تاريخ ابن عساكر»، ترجمة علي، ج 2 ص 442، ومحمد بن يوسف الكنجي الشافعي، «كفاية الطالب»، ص 214، والطبري، «تفسير جامع البيان»، ج 3 ص 365، وجلال الدين السيوطي، «الدر المنثور في التفسير بالمأثور»، ج 6 ص 379، وابن حجر الهيثمي، «الصواعق المحرقة»،
سورة البينة، الآية 7.
ذكر الرواية وصححها كثير من المحدثين والمؤرخين، كابن عساكر الشافعي في كتابه «تاريخ ابن عساكر»، ترجمة علي، ج 2 ص 442، ومحمد بن يوسف الكنجي الشافعي، «كفاية الطالب»، ص 214، والطبري، «تفسير جامع البيان»، ج 3 ص 365، وجلال الدين السيوطي، «الدر المنثور في التفسير بالمأثور»، ج 6 ص 379، وابن حجر الهيثمي، «الصواعق المحرقة»،
أنظر: الشيخ عبد الحسين الأميني في كتابه الغدير، والذي جمع فيه الروايات التي نقلت واقعة الغدير وحديثها.
نهج البلاغة، الخطبة (74).
راجع: الشيخ محمد صالح المنجد (وهابي سعودي) في موقعه «سؤال وجواب» على الإنترنيت، 24/ 7 / 2018.
أخرجه مسلم في «الصحيح»، والترمذي في «السنن»، وأحمد في «المسند»، وابن أبي عاصم في «السنّة»، وابن أبي شيبة في «المصنف»، والطبراني في «المعجم الكبير»، ج 3 ص 65.
رواه عبد الله ابن عباس، وأخرجه الترمذي في «السنن» والحاكم في «المستدرك»، والمتقي الهندي في «كنز العمال».
رواه الحارث بن الحارث الأشعري، وذكره الترمذي في «السنن» وأحمد في «المسند».
ذكره المتقي الهندي في«كنز العمال».
رواه أبي نجيح العرباض بن سارية وعبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر، وأخرجه أبو داود في «الصحيح» وأحمد في «المسند».
كما يلخص أقوالهم الشيخ الألباني في «سلسلة الأحاديث الضعيفة»، ج 1 ص 145، إلّا أن كثيراً من مشايخهم يحتجون به ويصرون عليه.
يتبنى السيد مرتضى العسكري في كتابه «معالم المدرستين» مصطلح (مدرسة الخلافة) و(مدرسة الإمامة).
ابن حجر، «الدرر الكامنة»، ج 1 ص 179 ـ 181، 185.
العلوي بن طاهر الحداد، «القول الفصل فيما لبني هاشم من الفضل»، ج 2.
ابن تيمية، «منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية»، تحقيق: عبد الله محمود محمد عمر، ج 4 ص 66.
المصدر السابق، ج 2 ص 291.
المصدر السابق، ج 2 ص 244.
المصدر السابق، ج 2 ص 240.
المصدر السابق، ج 4 ص 67.
المصدر السابق، ج 2 ص 239.
المصدر السابق، ج 4 ص 101.
المصدر السابق، ج 2 ص 202.
المصدر السابق، ج 2 ص 203.
المصدر السابق، ج 4 ص 341.
سورة النساء، الآية 43.
ابن تيمية، «منهاج السنة النبوية»، ج 2 ص 202.
المصدر السابق، ج 2 ص 221.
انظر: علي المؤمن، «الفقه والدستور: التقنين الدستوري الوضعي للفقه السياسي الإسلامي»، ص 357.
أنظر: علي المؤمن، «الاجتماع الديني الشيعي: ثوابت التأسيس ومتغيرات الواقع»، ص 163.
حول تفاصيل الخلافات العامة بين السنة والشيعة أو بين عموم المذاهب الإسلامية، أُنظر: محمد أبو زهرة، «تاريخ المذاهب الإسلامية»؛ ومحمد جواد مغنية، «الشيعة في الميزان»، ص 75 ـ 86؛ و«الفقه على المذاهب الأربعة» لعبد الرحمن الجزيري؛ و«الخلاف» للشيخ الطوسي، والشهرستاني؛ «الملل والنحل»، ق 1؛ وابن حزم، «الفصل في الملل والأهواء والنحل»؛ وابن طاهر البغدادي، «الفرق بين الفرق»، (مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ المؤلفين الثلاثة الأواخر لم يتحروا الدقة والموضوعية في الكثير من الموارد)؛ وأسد حيدر، « الإمام الصادق والمذاهب الأربعة»، ج 1 و 2؛ وأحمد محمود الشافعي، «المدخل للشريعة الإسلامية»، ص 146 ـ 173؛ ومحمد محمد المدني، «أسباب الخلاف بين أئمة المذاهب الإسلامية، حول الوحدة الإسلامية أفكار ودراسات»، ص 199 ـ 239؛ وعبد الحسين شرف الدين، «الفصول المهمة في تأليف الأُمّة»، ص 51 ــ 130.
الشيخ أبو الحسن الأشعري، «مقالات الإسلاميين واختلاف المصلِّين»، ج 1 المقدمة.

أحدث المقالات

أحدث المقالات