خاص: بقلم- د. مالك خوري:
كان لقائي الأول بأعمال صنع الله إبراهيم في عام 2013، حين وجدت نفسي مأخوذًا بالمسلسل الرمضاني (بنت اسمها ذات)، المقتبَّس عن روايته الشهيرة الصادرة عام 1992؛ (ذات)، وقد أخرجته “كاملة أبو ذكري” وكتبت له السيناريو “مريم نعوم”. كانت سنوات إقامتي الطويلة في كندا قد أبعدتني عن نبّض الأدب والفن العربيين، ولم أتمكن من تذوّق جمال عمل متلفز مستّوحى من رواية لكاتب سأدرك قريبًا أنه من أقوى الأصوات المَّعاصرة في الأدب العربي، إلا بعد انتقالي إلى القاهرة.
شدّني المسلسل على كل المستويات: وجدانيًا، وفكريًا، وجماليًا. كنت أنتظر حلقته الجديدة كل ليلة بلهفة تكاد تشبَّه لهفة الأطفال. وعلى امتداد حلقاته الإحدى والثلاثين، تابع العمل حياة “ذات”، المرأة المصرية من الطبقة الوسطى الدُنيا، منذ ميلادها عام 1952 مرورًا بعقود من التحوّلات، حيث نسّجت رحلتها الشخصية في نسيج التاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي لمصر الحديثة.
وحين انتهت الحلقة الأخيرة، شعرت وكأنني تُركت في العراء، لكن سرعان ما تحوّل انتباهي إلى المصدر نفسه. بدأت أضع خطتي لقراءة روايات إبراهيم، واحدة تلو الأخرى، مأخوذًا بصوت روائي يجمع بين الحميمية والسلطة الأدبية. وخلال الأشهر التالية، قرأت مجمل أعماله، غائصًا ليس فقط في نصوصه، بل في التاريخ المعقّد لهذه الشخصية الأدبية والسياسية البارزة. ومن خلال هذه الرحلة، تعرفت على أسلوبه الفريد في رسم تاريخ مصر الحديث، بتركيزٍ دائم على التفاصيل الدقيقة للحياة اليومية، وعلى واقع الطبقات العاملة وأحوالها.
كشفت ليّ هذه الرحلة القرائية أن صنع الله إبراهيم ليس فقط سيدًا لفن السرد، بل واحدًا من أكثر الروائيين الماركسيين في العالم العربي تمسَّكًا بمواقفه، وكاتبًا يترك بصمة عميقة على المشهدين الأدبي والسياسي في مصر ما بعد 1952. فعلى مدى أكثر من نصف قرن، رفض أن يُخفف من حدّة التزامه الإيديولوجي: رافضًا التكريمات الرسمية، ناشرًا أعماله حصرًا عبر دور نشر مستَّقلة ويسارية، ومبدعًا جسدًا أدبيًا يواجه الاستبداد والإمبريالية والظلم الاجتماعي بدقة تكاد تكون وثائقية. وحتى حين تعرّض للاضطهاد بسبب انتماءاته الشيوعية، كان إبراهيم ـ شأنه شأن كثير من الفنانين والمثقفين الماركسيين في جيله ـ قادرًا على إدراك الأثر التحويلي العميق لثورة الضباط الأحرار عام 1952. فقد أقرّ بإصلاحاتها الجذرية المناهضة للإمبريالية والمَّحققة للتحول الاجتماعي والاقتصادي، دون أن يغضّ الطرف عن الكُلفة التي فرضتها آلة القمع. وكما قال لاحقًا: “كان لدى ناصر جهاز ينفّذ الأمور. سحب البساط من تحت أقدام الشيوعيين” (محنة مثقف عربي). هذا الموقف المركّب ـ الذي يجمع بين الإشادة بطموحات الثورة التَّحررية وإدانة إفراطها السلطوي ـ يتردد في تصريحاته العلنية وفي النسيج الأخلاقي لأعماله الروائية.
بدأ وعي إبراهيم السياسي بالتبلور خلال سنوات دراسته في كلية الحقوق بجامعة القاهرة في أوائل الخمسينيات. وقد انخرط في العمل السري داخل حركة “التحرر الوطني الديمقراطية” الماركسية، في وقتٍ كانت فيه اليسارية المصرية منتشّية بسقوط الملكية، لكنها تتوجس من إحكام الضباط الأحرار قبضتهم على السلطة. وبلغ هذا التوتر ذروته في عام 1959، عندما شنّ النظام حملة اعتقالات واسعة ضد الشيوعيين، كان إبراهيم بين ضحاياها، وحكم عليه بالسجن سبع سنوات. قضى منها خمسًا، وأُفرج عنه عام 1964 في توقيتٍ يتزامن ـ ليس من قبيل الصدفة ـ مع زيارة الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف لافتتاح السد العالي بأسوان.
وقد كانت سنوات السجن تلك حاسمة في صياغة حسه الأدبي، إذ رسخت لديه أسلوبًا قائمًا على الملاحظة، والتقطيع، والشكل الوثائقي، وهو ما برُز لأول مرة في عمله الأول “تلك الرائحة” (1966). وغالبًا ما تُقرأ هذه الرواية القصيرة كسجل سجني، إذ تتخلى عن الحبكة التقليدية لصالح الجو العام، وتمزج بين ملاحظات مهرّبة، ومقتطفات صحافية، وروتين يومي رتيب، لتجسيّد القيود النفسية والجسدية للاعتقال. لقد فاجأ شكلها غير المألوف الوسط الأدبي في القاهرة: فهو من جهة فعلٍ مقاومة سياسي، ومن جهة أخرى بيان جمالي لمبدعٍ ماركسي يبحث عن الحقيقة في خام الواقع المعيّش.
بعد الإفراج عنه، غادر إبراهيم مصر للدراسة والعمل في الخارج، قاضيًا فترات طويلة في برلين الشرقية وموسكو. وهناك، انغمس في الحياة الثقافية والسياسية للكتلة الشرقية، متشرّبًا رؤية اشتراكية تشكلت من تجارب وطنية متعدَّدة، ما عمّق قناعاته الماركسية ووسّعها إلى ما يتجاوز التجربة المصرية. وقد كانت عودته إلى الأدب موسومة برواية “نجمة أغسطس” (1974)، التي عكست مزيج الإحباط والأمل العنيد لدى المثقفين اليساريين بعد هزيمة 1967. وجعلت من السد العالي، ورمز التعاون “المصري-السوفييتي”، خلفية لمسَّاءلة التوتر بين مشاريع التحديث الوطني والسلطوية المتجذرة في الدولة ما بعد الاستعمار.
وبحلول الثمانينيات والتسعينيات، اتسعت روايات إبراهيم في النطاق والحدة الساخرة معًا. فجاءت “اللجنة” (1981) كاستعارة لاذعة عن الامتثال البيروقراطي والإيديولوجي، مستَّعيرة عبثية كافكا لفضح قبضة الدولة على المعرفة والثقافة والجسد. وبعد عقد، صدَّرت “ذات” (1992)، وهي سجل واسع لحياة امرأة مصرية عبر عقود من التحولات السياسية، مزج فيها بين الشخصي والأرشيفي، وأدرج نصوصًا حقيقية من الصحف المصرية، ليجعل من الإعلام شاهدًا على تدهور المجال العام من تفاؤل عهد عبدالناصر إلى رأسمالية المحاسيّب في عهد السادات وجمود عهد مبارك (إبراهيم، ذات). أما “شرف” (1997)، فقدمت إدانة شاملة لفكرة السجن التقليدية نفسها، جاعلة منها نموذجًا مصَّغرًا لافتراس الرأسمالية العالمية، ولا سيّما في مجال الصناعة الدوائية الدولية (إبراهيم، شرف). وهنا، لم تُعدّ السجون مجرد رمز للقمع السياسي، بل استعارة للعنف البنيوي للعولمة النيوليبرالية، ما يُعزّز نقد إبراهيم الماركسي لآليات الإمبريالية الاقتصادية.
امتدت جغرافيا السرد لدى إبراهيم أيضًا إلى ما وراء حدود مصر. فقد قدّم في “بيروت بيروت” (1984)، تصويرًا حادًا للحرب الأهلية اللبنانية، ملتقطًا دمارها الإنساني والسياسي بعين الصحافي وحس الروائي الأخلاقي. وبعد عقدين، عاد في “وردة” (2000)، إلى الكفاح المسَّلح اليساري في منطقة ظفار بسلطنة عُمان، ناسجًا رواية تضع الحركات الثورية العربية ضمن إطار مشترك عابر للحدود. وفي العملين معًا، أكد تضامنه مع النضالات المناهضة للإمبريالية في العالم العربي، مؤسسًا إبداعه على قناعة بأن الإنتاج الثقافي جزء من المهمة التاريخية للأممية الماركسية.
جاء عقد الألفين بما حمله من إبداع متجدَّد ومواقف علنية تؤكد صلابته الإيديولوجية. ففي عام 2003، رفض إبراهيم جائزة الدولة التقديرية في الآداب، مستغلًا اللحظة ليُلقي خطابًا لاذعًا ضد فساد النظام وتبعيته للمصالح الأميركية (محنة مثقف عربي). أما أعماله الروائية في تلك المرحلة، فواصلت كسر القوالب الفنية وتوسيّع الأفق الموضوعي. فعاد في “التلصص” (2007)؛ إلى منطقة السيّرة الذاتية، مستَّعيدًا ملامح الطفولة في بيت بالقاهرة خلال أوائل الأربعينيات. وفي “الجليد” (2011)، التي تدور أحداثها في الاتحاد السوفييتي إبان الحرب الباردة، قدّم شخصية طالب مصري في موسكو، جاء صوته السردي باردًا يعكس اغتراب المنفى. وأخيرًا، جاءت “1970: الأيام الأخيرة” (2020)؛ كتوثيق متعدَّد الطبقات للحظات الأخيرة في حياة جمال عبدالناصر، جامعًا بين التقرير السياسي وجو الحداد الصامت الذي خيَّم على مصر. وفي مقابلة عام 2011، متأملًا في انتفاضات الربيع العربي، فرّق إبراهيم بوضوح بين الاحتجاج العفوي والتحول الثوري: “الثورة لها برنامج وهدف ـ تغيّير كامل للواقع أو إزاحة طبقة لتحل محلها طبقة أخرى” (الخيال كفعل انتقالي).
وعلى امتداد مسيّرته، حافظ إبراهيم على رؤية ماركسية أصيلة في عدائها للدوغماتية، كما للانتهازية في المواقف. فهو يعترف بإنجازات الحقبة الناصرية في مجالات التصنيع، وتوسيع التعليم، ومناهضة الإمبريالية، لكنه يرفض غض الطرف عن قمع النظام للسياسة اليسارية المستقلة. إن واقعيته الوثائقية، واعتماده على الأرشيف، وسخريته اللاذعة ليست مجرد اختيارات جمالية، بل هي استراتيجيات سياسية، تنبَّع من إيمانه بأن الأدب يجب أن يواجه التناقضات المعيشة في زمنه. وهكذا، تشّكل أعمال صنع الله إبراهيم أرشيفًا لدورات مصر الثورية، وشاهدًا على بقاء الفكر الماركسي في فضاء الثقافة العربية.