عبد الله كوران الشاعر الذي أعاد ترتيب أنفاس الجبال

عبد الله كوران الشاعر الذي أعاد ترتيب أنفاس الجبال

في مهبّ الريح العاتية التي كانت تعصف بجبال كردستان، ووسط ضجيج الحروب التي لا تهدأ، وقف شاعر نحيل الجسد، عظيم الروح، يدعى عبد الله كوران، كأنه صدى قديم لطفلٍ حلم بأن يجعل من القصيدة خندقاً ومن الحرف سلاحاً، ومن الجمال عقيدة تقف بوجه العدم. عبد الله كوران لم يكن مجرد شاعرٍ عابر في سجل الأدب الكردي، بل كان انقلابًا هادئًا على التقاليد، نبوءة نطقت بها الجبال ودوّنتها القصائد.

وُلد في حلبجة عام 1904، المدينة التي ستبكيه مرتين: مرة حين خسر طفولته بموت الأب واغتيال الأخ، ومرة أخرى حين ودّع الحياة وهو يحمل على جسده المريض آثار التعب والنضال والكتابة. تعلم كوران القرآن على يد والده، ولم تكن دراسته لكتاب الله سوى أول مسار نحو فهم الذات الكبرى – ذات الإنسان، والطبيعة، والحق. لكن القدر انتزعه من مقاعد العلم، وألقى به في شقاء المعلمين الريفيين، يوزع الحروف على الصغار بينما يخبّئ بين كتبه قصائد تتشكل في رحم الألم.

إنه واحد من أولئك الذين لا تصنعهم الصدفة، بل تصنعهم المعاناة. غادر المدرسة ليعول أمه، ثم غادر مقاعد التعليم ليعلّم الشعراء كيف يولد الشعر الحقيقي. كانت خطواته الأولى في نظم الشعر مشبعة بسحر الجمال الطبيعي والأنثوي، لكنه لم ينعزل في برج رومانسية مفرغ من الصراع. لقد كان شاعر المرأة والطبيعة، نعم، لكنه كان أيضًا شاعر السجن والمعتقل والثائر.

يقول جمعة الجباري: “شرعت الواقعية بعد الحرب العالمية الثانية تتعاظم في الأدب الكردي، وكان كوران أحد من فجّرها بقصائده، فأسس مدرسة شعرية باسمه، تُذكر بعد أن تُذكر أسماء الرواد الكبار في الشعر الكردي الكلاسيكي.” لقد انتقل كوران من الكلاسيكية إلى الرومانسية، ومن ثم إلى الواقعية النضالية، في رحلة شعرية تشبه ارتحال مقاتل يغيّر سلاحه دون أن يغيّر إيمانه.

لم تكن القصيدة عند كوران تأملًا لغويًا في بهاء المفردة، بل كانت مزيجًا من الحلم والجراح. ففي قصائده ترى الطبيعة بوصفها روحاً لا مجرد ديكور، والمرأة رمزًا لا غرضًا، والحب خندقًا لا ترفًا. كتب عن الجمال ليحرّض على القبح، وكتب عن الورد ليحرض على نزع الأشواك من صدر الإنسان.

ولم يكتفِ كوران بالشعر؛ لقد مارس الصحافة، والإذاعة، والتعليم، والعمل الوظيفي، وحتى السجن. تنقّل بين يافا وبغداد والسليمانية، وكان اسمه يرتفع كلما أُسقط في زنزانة. لقد دخل السجن شاعرًا، وخرج منه أسطورة. وكانت “أنشودة الصامد” ليست فقط قصيدة بل شهادة ميلاد لأدب يقف عند خط النار ويغني.

أما الناقد حواس محمود، فيقول عن كوران: “كان الجبل الشامخ في الشعر الكردي المعاصر، نبذ التقليد، وغنّى للجمال، لكنه في الوقت ذاته كان مناضلًا نثر الدم في كل بيت شعري كتبه.” ويضيف: “إنه الرومانسي الذي عشق المرأة، لكنه لم يغفل عن الطاغية. كتب عن كاوا الحداد كما كتب عن العاشقة، وبذلك كان شاعر النقيضين: الحلم والرصاصة.”

في بغداد، وفي منتصف القرن العشرين، كتب كوران شعره الأخير، وأشرف على مجلة “شفق”، ثم أُلقي في زنازين عدة: من الكوت إلى بعقوبة إلى سجن نقرة السلمان. كانت قصيدته “قصة الأخوة” تجسيدًا لحلمه القديم، حلم الأخوة الكردية العربية، وهو حلم لم تقتله الزنازين، بل صقلته.

رحل كوران في تشرين الثاني 1962 بعد صراعٍ مريرٍ مع السرطان، لكن روحه ظلت تسكن في قصائده، التي نُشرت كاملة في الثمانينات، لتصبح بمثابة تراتيل جبلية لشاعرٍ علّمنا أن نقرأ الشعر كما تُقرأ الشهادة. دفن في السليمانية، في مقبرة سيوان، لكن صوته لا يزال يُسمع في مقاهي الشعراء ودفاتر المحبين، وقمم الجبال التي أحبها وغنّى لها.

عبد الله كوران، لم يكن شاعرًا عاديًا، بل لحظة في الوجدان الكردي يصعب نسيانها، وشعلة أوقدت جيلًا من المجددين والثوار، وحين يُقال عنه إنه رائد الشعر الكردي الحديث، لا يعني هذا مجرد سبق زمني، بل سبق وجداني، سبقه إلى أن يجعل من الشعر بيتًا يسكنه شعب بأكمله.

رحل كوران، وبقيت القصيدة تصرخ باسمه، تُشبهه كما تُشبه حلبجة التي ولد فيها: جميلة، حزينة، ومقاومة.