رغم ابتعادنا عن الحياة الريفية التي عاشها آباؤنا وأجدادنا، ورغم انقطاعنا عن معالم الزراعة بطرقها القديمة والبسيطة، إلا أنني أجد أن أبناء الريف ما زالوا يعشقون الزراعة، وما زالوا يبحثون عن أي أرض قريبة من مساكنهم ليقوموا بزراعتها.
يقوم الكثير منهم بذلك إمّا بدافع الترفيه لعوائلهم في أوقات الاستراحة العائلية، أو بدافع إنتاج الخضروات والفواكه التي تساعدهم على توفير مصروفهم اليومي. واليوم، وأنا أتجول في مناطق جنوب الموصل، ألاحظ في كل زيارة أن العديد من الإخوة والأصدقاء قد زرعوا الأراضي المتاحة ضمن منازلهم بأشجار مثمرة ونخيل يحمل أنواعًا من التمور. وهذا الأمر كان يُعدّ شبه مستحيل في تلك المناطق قبل ثلاثة عقود من الزمن.
أصبحت أرى في حدائقهم أنواعًا متعددة من الفواكه، وخضروات تكفي أحيانًا لسد احتياجات عوائلهم، مما يعزز مفهوم الاكتفاء الذاتي، بجهود جماعية من أفراد الأسرة الذين يتعاونون لزراعة المساحات المتوفرة لديهم. وهذا بحد ذاته يعد من قمة النجاح الذي نسعى إليه.
نعم، أبناء الريف ما زالوا يعشقون الأرض، وقلوبهم ما زالت تَحنّ إلى ذلك الماضي الجميل الذي عاشه آباؤهم وأجدادهم. فرغم تغيّر الزمن، وتغيّر أنماط الحياة، وانتشار الطراز المعماري الحديث، وشبكات المياه، والشوارع المعبّدة، إلا أنني أجد الطبيب والمهندس والعسكري، وكل فئات المجتمع، يخصصون جزءًا من وقتهم لزراعة أنواع من الفواكه والخضروات في حدائق منازلهم.
إنها متعة مزدوجة: أولًا، تتحول الأرض إلى مساحة خضراء دائمة طوال السنة. وثانيًا، يستفيدون من ثمار تلك المزرعة الصغيرة، وهو أمر جميل ومثمر.
ومن هنا، أوجّه تحية شكر وتقدير لكل هؤلاء الأبطال الذين ما زالوا متمسكين بالزراعة، ويعتبرونها موردًا دائمًا، حتى وإن كان موردًا ثانويًا لعوائلهم. فالبيت الريفي الذي لا يحتوي على أرض خضراء، لا يختلف كثيرًا عن بيوت المدن.
نعم، لقد استطاع هؤلاء الرجال أن يحققوا في منازلهم معادلة الماء والخضرة، ومنحهم الله وجهًا حسنًا وراحة نفسية في حياتهم الاجتماعية…
تحية ومحبة وتقدير لهم، ووفقهم الله وهم يزرعون ويحصدون ويأكلون مما تزرع أيديهم.