من مدينة الحلة، حيث تُولَد المفردة العراقية مشبعة بعطر التاريخ ورنين الموروث، خرج صلاح حسن سنة 1960 حاملًا هواجس طفلٍ قرأ الحياة مبكرًا، وتأمّل في سرِّ الوجود من نافذة الشعر والمسرح. درس الفن المسرحي في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد وتخرّج فيها عام 1982، لكنه سرعان ما تجاوز إطار الخشبة إلى رحابة النص الشعري والسردي، كاتبًا بلغة لا تهدأ، مُحمّلة بالأسى والحلم، باللغة الأم وباللغات التي قادته إليها المنافي.
شاعر الطفولة والقلق الوجودي
يكتب صلاح حسن قصيدة الطفل كما يكتب قصيدة المنفى، وكأنهما وجهان لمعاناة واحدة: الطفولة المجهضة في أرضٍ لا ترحم، والمنفى الذي يربّي ذاكرة لا تشيخ. في نصوصه الموجّهة للأطفال مثل “أنا صديقكم”، و”كونكو وتوتو في الروضة”، و”خمائل”، يطلّ شاعر كبير من نافذة صغيرة، لا ليدلّ الطفل على الطريق فحسب، بل ليعيد إليه الحكاية التي سُرِقت منه.
أما في شعره للكبار، فإننا نواجه شاعرًا لا يستسلم لبلاغة العزاء، بل يقيم في قلب المفارقة: “أنا مجنون لسبب وأنت عاقل بلا سبب”، “بيت الحلزون”، و”رأس في كيس” — كلها عناوين تنبض بعطب الإنسان، وتلتقط ارتجافته في عالم مقلوب، حيث الأمل يطلّ بخفر من فجوات الألم.
شاعر العبور وترجمة الأرواح
لم يكن صلاح حسن مجرد كاتب نُفي، بل كان عابرًا حقيقيًا بين لغات وثقافات، عابرًا بأناه الشعرية من العراق إلى هولندا، ومن العربية إلى الهولندية، ومنها إلى الإسبانية والفرنسية والفارسية والإنكليزية. ترجم كما تُترجم الأرواح، لا الكلمات فحسب، وأنتج نصوصًا تفيض عذوبة ورقة، مثل “النوم في اللغة الأجنبية”، التي صدرت بلغتين، في توأمة تؤرخ للقلق والهجرة والحنين.
عمله في الترجمة، ككتابه “أغنيات حب” عن الشاعرة الهولندية يوديت هرزبيرخ، أو ترجماته من الشعر الهولندي، لم يكن جهدًا لغويًا بقدر ما هو سعيٌ لنسج جسور بين الأرواح، وتحقيق نوع من العدالة الجمالية التي تجعل الغريب مألوفًا، والأصيل عالميًا.
مسرحيّ يعيش في القصيدة
بقدر ما كان شاعرًا، كان صلاح حسن كاتبًا مسرحيًا يرى الحياة مشهدًا دائم التحول. كتب نصوصًا مسرحية بالعربية والهولندية وقدّمت في بلجيكا، عمان، البحرين، موسكو، وهولندا، مثل “حب في أوروك”، “الراقص”، “أوهام”، “الصفعة”، “الشيطان والأيام السبعة”، و”عبث” التي اختيرت ضمن أفضل عشر مسرحيات في هولندا عام 2003. لقد عرَض فيها وجوه الإنسان المنفي والضائع والمتشظي، وأعطى المسرح العربي في أوروبا بُعدًا تأمليًا وسرديًا نادرًا.
شهادات النقاد في كتابته
رأى فيه بعض النقاد شاعرًا حداثيًا بامتياز، يتقن لعبة اللغة كما يتقن الحفر في المعنى، بينما وصفه آخرون بأنه “شاعر التحولات”، لما بين أعماله من تنقّلات في الشكل والمضمون، لكنه دائمًا يحتفظ بجذوة السؤال، ومرارة التجربة. كتب عنه الناقد عبد الله إبراهيم أنه “واحد من الأصوات التي تمكّنت من إعادة تشكيل الشعرية العراقية خارج حدود الجغرافيا”، فيما أشار الناقد فاضل ثامر إلى “قدرته على جعل التجربة الشخصية نافذة لتأملات كونية، حتى في قصائد تتناول تفاصيل يومية أو حكايات من الطفولة”.
أما بعض النقاد فقد نظروا إلى نصوصه بوصفها “نموذجًا للتداخل الثقافي المثمر”، حيث يحضر الشرق لا بوصفه متحفًا، بل بوصفه كائنًا حيًا، يتنفس في القصيدة والمسرح معًا.
الغربة وطنٌ يُكتب
منذ مغادرته العراق عام 1992 واستقراره في هولندا، لم تكن الغربة في شعر صلاح حسن “مكانًا” بل حالة شعرية. لم تكن هولندا محطة عبور فقط، بل مختبرًا لإعادة تشكيل الذات. أسّس جمعية “أور” الثقافية، ليواصل منها دوره التنويري والتواصلي، رابطًا بين المثقفين العرب والغرب، ومبرهنًا أن الشعر، وإن وُلد في وطن، يمكن أن يعيش في جميع الأوطان.
الجوائز والمكانة
نال صلاح حسن جوائز متعددة داخل العراق وخارجه، منها جائزة الأقلام، وجائزة دنيا الهولندية للشعر، وجائزة الإبداع عن “بيت الحلزون”، وجائزة هارلم الثقافية، لكنه ظل يكتب كمن لم يُكافأ بعد، وكأن الجائزة الأهم عنده هي النص القادم، أو قارئ مجهول في زاوية بعيدة من العالم.
إن تجربة صلاح حسن ليست مجرد سيرة أدبية باذخة، بل هي مثال نادر على كيف يصنع المنفى شاعرًا كونيًا، وعلى كيف تُحوّل الطفولة والمسرح والتعدّد اللغوي الشاعرَ إلى كائن يرى العالم بأكثر من عين، ويكتبه بأكثر من لسان، لكنه في نهاية المطاف، يظل شاعرًا عراقيًا بامتياز، يحمل بابل في روحه، وإن كتبها بكل لغات العالم.