في خضم فوضى الطوائف وتناحر القوميات، ووسط الضجيج الممنهج الذي يُراد له أن يُغطي على جوهر الهوية العراقية الاصيلة ، يبرز مشروع “الأمة العراقية” ليس كشعارٍ يتردد في المحافل، ولا كحالة حنين طوباوي للماضي، بل كضرورة وجودية لإنقاذ العراقي من مستنقعات التبعثر وفخاخ التمزيق الممنهج ودياجير التناحر الطائفي والعرقي والقومي … ؛ إنه نداء العقل والضمير معًا، في زمنٍ يعيش فيه العراقي حائرًا بين ماضٍ محرّف، وواقعٍ محترق، ومستقبلٍ مغيّب عمداً.
العراق اليوم لا يعاني من أزمة موارد، بل من أزمة وعي، أزمة في تعريف الذات وفي تأصيل الانتماء الوطني … ؛ فالهويات الفرعية بل والثقافات الهجينة والدخيلة قد تحولت إلى أديان بديلة: الطائفة، القومية، العشيرة، المنطقة، واللهجة … الخ ؛ والتي لم تكن يوماً سوى هويات فرعية تنصهر في بوتقة العراق العظيم .
من هنا، لا يمكن لأي مشروع وطني حقيقي أن يُبنى دون إعادة تعريف الانتماء الوطني وفرز الدخيل عن الاصيل … ؛ وهذا ليس دور الساسة وحدهم، بل هي مسؤولية النخب المثقفة : الكتاب، المفكرين، الباحثين، الناشطين، وكل من لا يزال في صدره نفس عراقي ينبض… ؛ فالوطنية ليست نزهة فكرية، ولا خطابًا عاطفيًا، بل موقف تاريخي وأخلاقي لا يقبل الحياد ولا التسويف.
علينا أن نُقرّ، بشجاعة لا مواربة فيها، أن هناك من يسعى جاهدًا لإعادة إنتاج الماضي الأسود، وتلميع الطغاة، وتبرير المجازر، وتسويق الرموز الخائنة بلباس “أكاديمي”، تحت عنوان “إعادة القراءة” أو “الحياد التاريخي”… ؛ لكن القراءة الحقيقية للتاريخ لا تعني تبرئة السفاحين، بل مساءلتهم… ؛ و لا تعني التغني بخطبهم، بل كشف جرائمهم… ؛ و لا تعني اجترار أناشيدهم، بل إنصاف ضحاياهم.
الحياد في قضايا الحق والباطل، ليس عدالة، بل خيانة… ؛ والتاريخ الذي لا يُسائل الجلاد، يتحول إلى منصة لإعادة تسويقه… ؛ وهنا، يكمن دور الكاتب والمثقف الوطني الحقيقي: أن يكتب لا ليمجّد، بل ليُحاسب، لا ليُنافق، بل ليُحرر الوعي من أسر الزيف.
من هذا المنطلق، أطلقت مشروع “الهوية العراقية” كما تبناه قبلي البعض كالأستاذ سليم مطر وغيره ، لا كترف لغوي، بل كفلسفة بديلة، ومصالحة حضارية مع الذات، تقوم على منطق “أنا عراقي، إذن أنا موجود”… ؛ لا هوية ضد أحد، ولا إلغاء لأحد، بل هوية عابرة للطائفة، متجاوزة للقومية، متعالية على المنطقة والفئة واللهجة والانتماء الحزبي… ؛ هوية لا تبدأ من الكراهية، بل من الإيمان بأن الإنسان العراقي، أيًّا كان، يستحق الكرامة والعدالة والحرية.
لا يمكن للوطن أن ينهض ما لم نُعد تصفية الحساب مع أنفسنا أولاً، لا مع الآخر… ؛ فالاعتراف بالذنب الوطني، سواء كان خيانة أو تواطؤًا أو صمتًا، هو أول أبواب التوبة الجماعية… ؛ فمن لا يُكرم وطنه، لا يُكرم نفسه، ومن يسخر من ماضي بلاده، يسخر من وجوده هو، ويصير ضحية للاغتراب عن الذات والتاريخ.
لقد آن أوان تفكيك منظومة التخلف التي حكمتنا لعقود بل قرون طويلة ، وأولها منظومة الفكر الطائفي والقبلي والانفعالي… ؛ ولا يتم هذا التفكيك إلا ببناء بديل فكري ــ أخلاقي ــ معرفي، يقوم على:
*العقل بدل العاطفة
*العلم بدل الخرافة
*العدالة بدل الثأر
*المواطنة بدل المحاصصة
*الهوية العراقية بدل الانتماءات المستعارة
نحن لسنا أبناء الطارئين على الجغرافيا والتاريخ، بل أبناء حضارة وادي الرافدين، أحفاد سومر وبابل وآشور والوركاء وأور وممالك ميسان والحضر والحيرة… ؛ نحن أبناء علي بن أبي طالب، وأبي حنيفة النعمان النبطي، وأحمد الرفاعي الجنوبي ، لا عبيد مشاريع الطغيان الطائفي ولا اذناب التبعية الخارجية ولا بيادق لعبة الأمم.
فكيف نقبل، نحن أحفاد سبعة آلاف عام من الكتابة والفقه والقانون والحكمة، أن نُساق مثل قطعان تتقاتل على حدود العشيرة أو المذهب أو القومية؟!
كيف نرضى أن تتحول الذاكرة العراقية من سجل حضاري إلى ساحة لتصفية الحسابات الطائفية والسياسية؟!
إن مشروع الأمة العراقية هو الكفاح الأكبر في عصر ما بعد الاحتلال والطائفية؛ كفاح ضد التجهيل، ضد الاستلاب، ضد تصفية العقل، ضد إعادة تصنيع الجلاد بأسماء جديدة… ؛ وهو كفاح لا يربحه من يجيد الهتاف، بل من يملك الشجاعة أن يواجه نفسه، وأن يغيّر لغته، وأن يتحرر من انتماءاته الموروثة لصالح انتماءٍ اختياريٍّ وحر: الانتماء للعراق.
فليكن هذا المشروع نداءً مفتوحًا لكل من بقي عراقيًا رغم الطعنات: ضع قلبك قبل طائفتك، وضع ضميرك قبل أيديولوجيتك، وانهض بعراقك كما تنهض الأمم الكبرى من سباتها…
فلنكتب لا لكي نحيا فقط، بل لكي نحمي ذاكرة وهوية وطن تكالبت عليها الاعداء من كل حدب وصوب .