الإقصاء في اللغة العربية هو مصدر الفعل (( أقصى )) الذي يعني أبعد أو أزاح , ويشير الإقصاء إلى استبعاد الأفراد أو المجموعات من المشاركة الكاملة في جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية المختلفة , مثل العمل , والتعليم , والرعاية الصحية , وفي علم النفس يمكن أن يكون الإقصاء تجربة مؤلمة تؤثر على الصحة العقلية للفرد , وقد يؤدي إلى الشعور بالوحدة والعزل , وعادة من يمارس الإقصاء , يعتقد أنه المالك الوحيد للحقيقة والحق وغيره على باطل , والاقصاء يقود إلى تفكك المجتمع وإشاعة الكراهية والحقد , وقتل الإبداع وإعلان الحرب على التنوع والدفاع المستميت عن الواحدية في الفكر , وحاملوا مسطرة الإقصاء يدافعون عن الواحدية , يشكل الاقصائيون خطرا على الفرد والمجتمع , (لأن الانسان الذي يعتقد أنه يمتلك الحقيقة المطلقة هو انسان شديد الخطر, لأنه يرفض الحوار مع الآخرين , ولا يأخذ بعين الاعتبار حقائقهم وعقائدهم , وبالتالي حرياتهم على ضوء الشك بحقيقته هو) , ولا يعلم أنه ليس وحده في هذا العالم بل له شركاء , الكون دونهم يصبح جحيما يقول الفيلسوف الفرنسي نيقولا مالبراش : (( أكبر عقاب لي أن أعيش وحيدا في الجنة )) .
عام 2003 تم الغاء كافة الدوائر والأجهزة العسكرية وألأمنية والتنظيمات الحزبية في العراق , وقامت سلطة ألأميركان وذيولهم بأصدار أمر بأقصاءي وجعلي من المنبوذين , بلا راتب ولا حقوق تقاعدية , وحجز كافة الأموال المنقولة وغير المنقولة , وحرمان من اي نشاط انتخابي محلي او وطني , والمنبوذ ليس مجرد موظف مطرود كل جريمته أنه (( وطني )) , بل هو فلسفة عميقة , فالنبذ هو نفيٌ صامتٌ ,مؤلمٌ , بلا جدران بلا قضبان , هو فعلٌ إجرامي , اقصائي من سلطة المركز (( المتن )) نحو (( الهامش )) كما يقول ميشيل فوكو , هو إقصاءٌ وجودي يكسر العظم , والمنبوذ عالمٌ داكن ٌ , مظلمٌ , منكمشٌ , خائفٌ من الاضواء من الأصوات .
يتمثل الإقصاء السياسي في إنكار حقوق المواطنة , بكل أشكالها مثل المشاركة السياسية , حيث يرى بعض علماء الاجتماع بأن الإقصاء السياسي , يتضمن سلوك النظام الحاكم والذي لا يتحلى بالحيادية أو تقبل الصوت المعارض , بل يعمل لصالح الفئات المهيمنة في المجتمع لحد إلغاء الآخر, وهذا يؤثر في المجتمع بطرق مختلفة وبدرجات متفاوتة , وقد يكون علاقات قوة غير متكافئة في التفاعلات الاجتماعية والسياسية , ما ينتج عنه تمزق في العلاقات بين فئات المجتمع الواحد , وقد يسبب صعوبة في الاندماج بين السلطة الحاكمة والشعب , فهذا سوف يعزز مفهوم العلاقة الوثيقة بين الاقصاء السياسي والصراع وانعدام الأمن احيانا , لذلك يكون الوعي بالاقصاء وعدم المساواة الخطوة الأولى لأي حراك سياسي اجتماعي , وقد ينتج عن الإقصاء صراع اجتماعي وسياسي أو ديني وطائفي أو قومي , لأنه ينفي الآخر ولا يعترف به متجاهلا مواطنيته.
يشير مفهوم (( المتن )) و (( الهامش )) عند ميشيل فوكو إلى العلاقة بين الخطاب المهيمن أو السائد (المتن) والخطابات الأخرى التي يتم تهميشها أو استبعادها (الهامش ) , حيث يهتم فوكو بتحليل كيف يتم تشكيل هذه العلاقات وكيف تؤثر على المعرفة والسلطة ,و يقول : (( المتن , ليس دائما مركز الحقيقة , والهامش , قد يكون مساحة المقاومة الوحيدة المضيئة , وربما في الهامش تبدء إعادة تشكيل الخرائط , ربما في انقلاب المراكز , سينهض المنبوذين , من الهامش ليبدء الانقلاب )) , هكذا تعلمت ان المنبوذ حينما يُقْصٰى , لا يتلاشى , بل يبدء في إنتاج ( معنى) اخر للعالم , معنى خارج هيمنة السلطة , خارج المألوف , خارج المتن , علمني فوكو ان ( النص الختامي لبيان الانقلاب ) القادم سينطلق من هناك , من عالم التهميش والهوامش , سيصبح المنبوذ يوما , مركزاً , وسيعيد تعريف السلطة من جديد , وستتغير خريطة المعاني .
تكمن بذور المقاومة في أعماق هذا النبذ القاسي , فالإقصاء ليس مجرد فعل ينهي وجود الفرد , بل هو شرارة تُعيد تعريف هذا الوجود , عندما يُجرد الإنسان من كل شيء , من هويته الرسمية , من موقعه في المجتمع , من لقمة عيشه , فإنه يُجبر على إعادة بناء نفسه من الصفر, وفي هذا الفراغ المظلم , يبدأ المنبوذ في استكشاف قواه الداخلية التي لم يكن يعلم بوجودها , يكتشف أن إقصاءه عن (( المتن )) ليس نهاية العالم , بل هو فرصة لرؤية العالم من زاوية مختلفة , ليتحول (( الهامش )) الذي كان يُنظر إليه كمساحة من العجز , إلى مساحة من القوة والابتكار.
كتبت كفاح مجيد : (( المنبوذ فرد خائف من التنفس علناً , كائنٌ يختفي داخل جسده , دفعه المجتمع من النورمن المتن من المركز نحو الظلام نحو الهامش , ربما في يومٍ ما , سيأتي العالم الى (( الهوامش)) , ليطلب منهم إيجاد (( معنى )) وأجابات , ربما في يومٍ ما , سيعلن المنبوذ ثورته , ويقلب الهرم , حينها سيقول : انتم وضعتمونا في الهامش (( منبوذين )) , لكننا سنعيد تشكيل معاني المركز)) .