الحراك التشريني: من ثورة الأمل إلى الإحباط والخداع الانتخابي ومواجهة تخوين أحزاب السلطة؟

الحراك التشريني: من ثورة الأمل إلى الإحباط والخداع الانتخابي ومواجهة تخوين أحزاب السلطة؟

المتابع للقنوات الإخبارية العراقية، وخاصة برامجها الحوارية الموجهة إلى الناخب البسيط، يجد نفسه أمام مسرحية هزلية متكررة، تُعد بعناية مدروسة لخداعه بسهولة فجة وسرعة مخجلة. فمع اقتراب كل انتخابات برلمانية، تُطل علينا أحزاب السلطة بنفس الأسطوانة أما بصورة علنية ومن خلال قنواتها الإخبارية أو من خلال استغلال منابر الحسينيات والتركيز على نبرة التصعيد الطائفي ولكن اصبح بصورة مفضوحة ويُستخدم كسلاح لشحن العواطف وتشتيت الأذهان الناخبين , ما يثير الريبة والدهشة في نفس الوقت معًا هو مدى ما وصلته من براعة هذه الأحزاب في استغلال هذا الشحن الطائفي، وعبر التركيز لعرض برامج حوارية موجهة اصبحت أشبه بمسرحيات بائسة ومشاهد تمثيلية، تُعاد وتُكرر بنفس السذاجة المستفزة. فها هو أحد المرشحين، في عرض تلفزيوني مثير للشفقة، يطل علينا ليصرخ : “انتخبوا قائمة الولائيين لدولة الإمام المهدي، وإلا سيأتي الآخرون – ويقصد بذلك السنة – ليحرموكم من زيارة الأربعين وشعائر الحسين! ” كأن مصير المواطن العراقي، المثقل بالفقر والحرمان، لا يتعلق بتوفير أبسط مقومات الحياة من – كهرباء، ماء، دواء، أو فرص عمل – بل يُختزل في زيارة طقوسية، وفي قسمة ضيزى تُكرس الجهل وتُكبل العقول. هذه الشعارات الطائفية ليست مجرد استغلال للمشاعر الدينية، بل هي خيانة صارخة لتطلعات شعب عانى عقودًا من الإهمال، حيث تُستبدل حقوقه الأساسية بحفنة من الشعارات الجوفاء التي تُبقي السلطة في أيدي حفنة أحزاب السلطة ومن المستفيدين.

في خريف 2019، بدأ حراك تشرين كاحتجاج شعبي غير مسبوق ضد الفساد، البطالة، وغياب الخدمات الأساسية. أدت التظاهرات إلى استقالة حكومة “عادل عبد المهدي” وإقرار قانون انتخابي جديد يعتمد التصويت الأحادي ودوائر انتخابية متعددة، بهدف تمكين المستقلين والقوى الجديدة. لكن هذا الحراك، رغم زخمه، واجه قمعًا عنيفًا ودفعوا ثمنا باهضا أودى بحياة حوالي 800 متظاهر وإصابة أكثر من 25 ألفًا. هذا العنف، إلى جانب اغتيالات الناشطين، زرع بذور الخوف والإحباط بعد أن هزت صرخات الشباب العراقي شوارع بغداد ومدن الجنوب. الحركة الشعبية التي طالبت بإصلاحات جذرية، ومكافحة الفساد، وإنهاء هيمنة النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية والحزبية . حمل المتظاهرون آمالًا كبيرة، ودفعوا ثمنًا باهضا. وبعد ست سنوات، ومع اقتراب الانتخابات البرلمانية في ت2 2025، يبدو الحراك مشتتًا، بلا جبهة سياسية موحدة، وغارقًا في إحباط شعبي متزايد. ولكن لماذا فشل الحراك في ترجمة زخمه إلى قوة سياسية؟ وما الذي يغذي يأس الناخب العراقي؟ ومن خلال السياق والمتابعة نستطيع أن نحاول ونكشف العوامل العلنية والخفية وراء هذا الواقع، و يستقصي التحديات التي تواجه العراق في طريقه نحو التغيير. صحيح أن شرارة تشرين كانت تحدها أمل الإصلاح وأثمانه الباهظة في الأول من أكتوبر 2019، حيث خرج آلاف الشباب العراقيين إلى ساحة التحرير في بغداد ومدن مثل الناصرية والبصرة وذي قار، مطالبين بإنهاء الفساد، توفير فرص العمل، وتحسين الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه. كان الحراك، الذي سمي بـ”تشرين” نسبة إلى شهر انطلاقه، حركة شبابية غير مسبوقة، تخطت الانقسامات الطائفية والعرقية، وركزت على إسقاط نظام المحاصصة الطائفية الذي يهيمن على السياسة العراقية منذ 2003. نجح الحراك في حينها على إجبار رئيس الوزراء عادل عبد المهدي على الاستقالة في ك1 2019، ودفع البرلمان إلى إقرار قانون انتخابي جديد يعتمد التصويت الأحادي ودوائر انتخابية صغيرة، بهدف تمكين المستقلين والقوى الجديدة. ولكن هذا النجاح جاء بتكلفة باهظة حيث نقلت لنا كاميرات الهواتف النقالة والقنوات الاخبارية كيف تعاملت الحكومة بأسلوب قمع عنيف من قوات الأمن والميليشيات، مما أدى إلى استشهاد مئات المتظاهرين وإصابة الآلاف، إلى جانب اغتيالات ممنهجة ومدروسة استهدفت ناشطين بارزين ومؤثرين في الحراك التشريني وصوتهم مسموع من قبل المتظاهرين وبمرور الأيام والاسابيع التالية كانت محاولة حكومية لغرض بث الرعب والخوف في قلوب الناشطين، ولكنها أيضًا اتت بنتائج عسكية عززت معها إصرارهم على التغيير ولكن الزخم الذي بدأ في الشوارع والساحات العامة لم يترجم إلى قوة سياسية موحدة وفعالة وقيادة مركزية تستطيع أن تتعامل مع الأوضاع الراهنة وتتخذ نتائج ايجابية في مواجهة القمع الأمني الحكومي، ومما يطرح تساؤلًا ملحًا مفاده : لماذا عجز الحراك عن استغلال هذا الحماس الشعبي؟.

جبهة الحراك التشريني بدأت بعد مرور الأسابيع مفتتة في مواجهة نظام حكومي قمعي متماسك من خلال استخدام أقسى أنواع المواجهة المباشرة حتى باستخدام السلاح الحي حيث كان أحد أبرز أسباب تراجع الحراك التشريني هو التشظي الداخلي وعلى الرغم من النجاحات الأولية، مثل إقرار قانون الانتخابات الجديد، فإن الأحزاب المنبثقة عن الحراك، مثل “امتداد” و”البيت الوطني”، فشلت في توحيد صفوفها وانقسمت هي الاخرى على نفسها ففي انتخابات عام 2021، حققت حركة “امتداد” نجاحًا متواضعًا بحصولها على 9 مقاعد برلمانية في محافظات الجنوب، بينما قاطع “البيت الوطني” الانتخابات، مشيرًا إلى “غياب الأمن الانتخابي”. هذا الانقسام أضعف قدرة الحراك على منافسة الأحزاب السلطة الاسلامية التقليدية، التي تمتلك تنظيمات قوية وتمويلًا ماديا وفيرًا وقنوات اخبارية وإذاعية وصحف لان غياب القيادة الموحدة لمواجهة أحزاب السلطة كان الهاجس الأكبر لعدم سرعة تحقيقه والتحدي الأكبر. الحراك اعتمد على عفوية الشباب، لكنه افتقر إلى استراتيجية طويلة الأمد والتخطيط لتحويل الشعارات إلى برامج سياسية طموحة لجذب الناخب وهذا الفراغ القيادي جعل الأحزاب المدنية تبدو مشتتة وضعيفة وعشوائية ومما قلل من جاذبيتها أمام الناخبين.إضافة إلى ذلك، واجهت الأحزاب المنبثقة عن تشرين ضغوطًا من الأحزاب التقليدية. على سبيل المثال، تم تعديل قانون الانتخابات في 2023 ليعود إلى نظام سانت ليغو (بقاسم 1.7)، وهو نظام يفضل الأحزاب الكبيرة على حساب المستقلين.

وبعد ست سنوات من صرخات ساحة التحرير، يقف الحراك التشريني عاجزًا، غارقًا في مستنقع التشظي والضياع، بعيدًا كل البعد عن تحقيق حلمه بجبهة موحدة قادرة على اقتحام الانتخابات البرلمانية المقبلة في ت2 2025. كان الأمل أن يترجم زخم الاحتجاجات الشعبية إلى قوة سياسية حيوية فعالة ومؤثرة حتى خارج بيئتها المناطقية ، تملك موطئ قدم حقيقي في مجلس النواب، لكن الواقع المؤلم يكشف عن فشل ذريع. الانقسامات العميقة، الافتقار إلى الخبرة السياسية والتنظيم ، وغياب قيادة جديرة بالاسم، حولت الحراك إلى مجرد صدى باهت لشعارات طوباوية. وبدلاً من تشكيل كتلة سياسية قادرة على قلب المعادلات التقليدية، اختار العديد من تشرينيي الأمس مقاطعة الانتخابات، متوهمين أن معارضتهم العقيمة من خارج النظام ستغير واقعًا سياسيًا متجذرًا. والأكثر إثارة للسخرية المريرة هو أن بعض مرشحي هذه الأطراف المدنية، الذين رفعوا راية الإصلاح يومًا، انزلقوا إلى مستنقع الدعاية ، مستنسخين نفس الأساليب البائسة للأحزاب التقليدية ومن خلال ترديد نفس الشعارات بل واستنساخها حرفيا ، وعود كاذبة، واستغلال للمشاعر الطائفية. هكذا، تحول الحلم التشريني إلى مسرحية تراجيدية، حيث يُهدر زخم الشباب العراقي على مذبح الانقسام والسذاجة السياسية، تاركًا الناخبين في مواجهة خيارات لا تعدو كونها إعادة إنتاج لنظام المحاصصة المقيت.

إن هيمنة الأحزاب الإسلامية ومن خلال ماكينات اعلامية سياسية لا تُضاهى وفي المقابل، حافظت الأحزاب الإسلامية السياسية، على هيمنتها المشهد السياسي بفضل تنظيماتها القوية ودعمها المالي والخارجي. في انتخابات 2021، فاز التيار الصدري بـ 73 مقعدًا، وهو أكبر عدد لكتلة واحدة، بينما سيطر الإطار التنسيقي على الحكومة بعد انسحاب الصدر. هذه الهيمنة تكررت في الانتخابات المحلية 2023، حيث فازت تحالفات مثل “نبني”بأغلبية المقاعد في معظم المحافظات والعامل الأبرز وراء هذه الهيمنة هو النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية، الذي يعزز سيطرة الأحزاب الشيعية والسنية والكردية. كما أن النفوذ الخارجي، خاصة من إيران، يلعب دورًا حاسمًا. الإطار التنسيقي، المدعوم من طهران، يمتلك ميليشيات مسلحة وموارد مالية ضخمة، مما يمنحه تفوقًا في حشد الناخبين. على سبيل المثال، في الانتخابات المحلية 2023، استفاد الإطار من غياب التيار الصدري وحركة “امتداد”، مما سمح له بالسيطرة على مجالس محافظات مثل البصرة وبغداد حيث ما تزال أحزاب السلطة تكرس النظام السياسي الحالي والذي مصمم لتكريس هيمنة الأحزاب التقليدية. وبدون تغيير جذري في هذا النظام، لن تستطيع القوى المدنية منافسة هذه الماكينات السياسية وهذا الواقع أدى إلى شعور الناخبين بأن أصواتهم لن تحدث فرقًا، مما يغذي الإحباط واليأس ؟ وأزمة ثقة متفاقمة الإحباط بين الناخبين العراقيين ليس ظاهرة جديدة، لكنه تفاقم مع تراجع آمال تشرين. في انتخابات 2021، بلغت نسبة المشاركة 41% فقط، وهي الأقل منذ 2003، وفي الانتخابات المحلية 2023، انخفضت إلى أقل من 30% في بعض المحافظات. والاستطلاعات منظمات المجتمع المدنية أظهرت أن 60% من العراقيين يرون الفساد والتوقف السياسي كأسباب رئيسية عزوفهم عن التصويت، بينما يخطط 31% فقط للمشاركة في انتخابات 2025 وهذا الإحباط ينبع من عدة عوامل منها القمع والخوف واغتيالات الناشطين واستمرار العنف ضد المتظاهرين، جعل بالتالي الكثيرين يخشون المشاركة السياسية. ومنها الحزب الشيوعي العراقي، على سبيل المثال، قاطع انتخابات 2021، مشيرًا إلى “غياب شروط النزاهة” وسيطرة الميليشيات. وبالاضافة إلى خيبة الأمل من الإصلاحات كقانون الانتخابات الجديد، الذي كان مطلبًا تشرينيًا، تم تعديله لصالح الأحزاب التقليدية الكبرى، مما جعل الناخبين يشعرون بالخديعة وكما أن فشل الأحزاب المدنية في تقديم برامج وطنية مقنعة زاد من الشعور باليأس وعلى الرغم من أن رغم زعيم التيار الوطني الشيعي دعا أنصاره إلى تحديث بطاقاتهم الانتخابية، إلا أن غيابه يعزز هيمنة احزاب الإطار التنسيقي بصورة اكثر من السابق لان الساحة الانتخابية ستكون مفتوحة لهم دون أي منغصات ، مما يقلل من آمال التغيير.

والتدخل المباشر ومن خلال النفوذ الخارجي وسيطرة الميليشيات وراء الإحباط الشعبي، وتكمن معها عوامل قد تكون خفية وغير ظاهرة بصورة علنية الان ومن خلال تعزز هيمنة الأحزاب التقليدية والاستفادة من النفوذ الإيراني، على وجه الخصوص، حيث ما يزال يلعب دورًا حاسمًا في دعم أحزاب الإطار التنسيقي،هذه الأحزاب، المدعومة بميليشيات وفصائل ضمن مؤسسة الحشد الشعبي، تستخدم القوة المسلحة والموارد المالية لضمان سيطرتها.

ولكن ما يزال البعض يرى بصيص امل اذا تم استغلاله بصورة مباشرة ومن خلال الانتخابات البرلمانية القادمة والتي إما أن تكون فرصة أم فخ؟ حيث ما تزال تشير التوقعات إلى استمرار هيمنة الأحزاب التقليدية. ورغم أن هناك ملا يزال امل بان التيار الصدري قد يعيد النظر في مقاطعته، إلا أن غيابه الحالي يعزز فرص أحزاب السلطة في السيطرة على البرلمان. في الوقت نفسه، هناك محاولات لتشكيل جبهة معارضة مدنية، لكنها ما تزال تواجه تحديات التمويل والتنظيم والاهم العمل بالسرعة الممكنة ومن خلال مواقع التواصل الاجتماعي واستغلال تكنولوجيا الهاتف النقال لغرض ارسال رسائل نصية مباشرة الى الناخب لغرض استعادة ثقة الناخبين ومن خلال برامج انتخابية واضحة ومبسطة ومع ذلك، فإن الشعور العام بين العراقيين ما يزال يميل إلى اليأس وبينما أعلنت عشيرة عراقية مقاطعتها للانتخابات، معتبرة أن المشاركة تعني “مبايعة الحاكم الفاسد”.

ولغرض محاولة حثيثة مرة أخرى لاستعادة الأمل لحراك تشرين وكان صرخة أمل للعراقيين سابقآ ، ولكنه يواجه اليوم تحديات التشظي الداخلي والعشوائية في اتخاذ القرارات الصحيحة التي تعيد ثقة الناخب بالحراك مرة اخرى وتجعله أقوى من السابق في مواجهة أحزاب السلطة ، لان الإحباط الشعبي ينبع من فشل الحراك في توحيد صفوفه، ومواجهة تعديلات القوانين لصالح الأحزاب الكبرى، والنفوذ الخارجي الذي يعزز المحاصصة. واستعادة الزخم الشعبي أكثر من السابق ، يحتاج الحراك إلى قيادة موحدة، برامج وطنية واضحة، واستراتيجية انتخابية قوية. الانتخابات القادمة قد تكون فرصة للتغيير، لكن بدون تحالفات قوية وثقة شعبية، سيظل الحلم التشريني بعيد المنال ودعوة القوى المدنية للعمل على بناء تحالفات قوية، تقديم رؤية إصلاحية واضحة، وحشد الناخبين لاستعادة الثقة في العملية السياسية لان حراك تشرين كان صرخة أمل للعراقيين ولذا يجب على الجميع محاولة استعادته و بزخم اقوى من السابق واستراتيجية انتخابية تتجاوز الانقسامات على القوى المدنية العمل على بناء تحالفات قوية، تقديم رؤية إصلاحية واضحة، وحشد الناخبين لاستعادة الثقة في العملية السياسية. العراق، بتاريخه الطويل من الصمود، يستحق فرصة جديدة لتحقيق العدالة والإصلاح والتنمية الاجتماعية والاقتصادية.

[email protected]

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات