الدولة بين الفيدرالية والتجانس: قراءة وفق الفلسفة السياسية

الدولة بين الفيدرالية والتجانس: قراءة وفق الفلسفة السياسية

هل الانقسام الإداري يُهدّد البنية الوطنية؟
عندما نتصور الدولة ككائن حي، يتكون من أعضاء تعمل في تناغم لتحقيق البقاء والتطور، ندرك أن أي خلل في الانسجام الداخلي يهدد وجوده ذاته، ففي زمن تتزايد فيه الدعوات إلى اللامركزية والفيدرالية كحلول سياسية لدول متعددة الأعراق أو الطوائف، تبرز تساؤلات جوهرية: هل تُعد الفيدرالية وسيلة لتعزيز وحدة الدولة أم أنها خطوة نحو التفكك؟ وهل يمكن لدولة غير متجانسة أن تستقر إداريًا دون أن تُصيب بنيتها الوطنية بالتآكل؟
الفلسفة السياسية وتصورها للفدرالية
في الفلسفة السياسية، لا تُبنى الدولة القوية على مجرد مؤسسات أو حدود مرسومة، بل على قدرة تلك المؤسسات على العمل بتناغم تحت غطاء هوية جامعة. فحين تختلف الهويات، وتتضارب الولاءات، يصبح الجسد السياسي عرضة للتشظي، كما الجسد البيولوجي حين تهاجم خلاياه بعضها بعضًا فيما يُعرف بالداء المناعي الذاتي.
الفيدرالية في ذاتها ليست عيبًا، لكن عندما يكون لها حاجة أو تعدد منفصل، شرط أن يُضبط هذا التعدد بإطار جامع، الفدرالية الأمريكية، تكاملت حين بُنيت على أساس المواطنة المشتركة والنظام المؤسساتي القوي، لا على اعتبارات عرقية أو طائفية، وفشلت الكونفدرالية، لكن حين تُمنح الفيدرالية لكيانات وتثار متجسدة صنمية المتباينات، فإنها تصبح وصفة للتفكك وإيقاف التنمية.
الدولة التي يراد لها النجاح وقد خرجت من صراعات أو خُطِّط لها خارجيًا هي التي يصنع لها “تجانسًا إداريًا” راسخًا، وليس قوالب بنى تحتية مناسبة وليس وصفة الفدرالية فعندها تكون الفيدرالية وصفة مفروضة، يُراد منها تقاسم النفوذ والمنافع لا بناء دولة، تضخما ليس مطلوبا في هيكل إداري يسلب واردات التنمية، مع تحول الإقليم إلى كيان شبه مستقل، وتفقد الاتحادية هيبتها، وتنشأ تدريجيًا عقلية “الدولة داخل الدولة”، وهو ما يفتح الباب للنزاعات المزمنة ويفرّغ الدولة من مضمونها لتكون مرابح ومصالح على حساب الاستقرار والمواطن.
إنّ إصلاح الدولة لا يبدأ بمنح صلاحيات خاصة للمحيط أو لفئات، بل بتقوية الاتحادية بمشروع وطني يُقنع الجميع بأنه الضامن العادل للجميع، التجانس لا يأتي بالقهر، بل التشارك في المصير والمصلحة، وفي ظل ذلك، يمكن للفيدرالية أن تكون ناجعة، أما إذا غابت هذه النواة، فإن أي شكل إداري — ولو بدا عادلاً — قد يتحول إلى مدخل للتفتت واستنزاف الموارد، فليس عقلا أن يكون الجهاز الإداري متفرعا متضخما ولا إنتاجية تستدعي ذلك مجرد قالب اختير لإرضاء الأطراف والمنافع؛ فتُمنح الأقاليم صلاحيات واسعة بمسمى “العدالة”، لكنها في الواقع تُستخدم لبناء جزر سلطوية معزولة، تُربّى فيها نخب محلية ترى نفسها بديلاً عن الدولة، لا جزءًا منها، عندما الولاء يتوزع بين الطائفة، العِرق، والمتصدر المحلي فلن تكون أمة ولا دولة، دواوين ومجالس لا حاجة لها وتحاول أن تجد لها وظيفة فتعرقل التنمية التي هي احد مستنزفي مواردها ومنفذ لتلاقح الفساد الإداري على الأقل.
غياب التجانس، وخصوصًا غياب مشروع وطني جامع، يُسهم في فوضى الإدارة والثقافة وإحساس الظالم والمظلوم بالظلم، ففي المدن، لا نحتاج إلى مجالس منتخبة من ممثلي الأحزاب بل مجلس للإعمار والخدمات وهذا ممكن أن يكون من موظفي الدولة للتنسيق مع دوائر المحافظة وتسهي مهمة الدائرة الهندسية مثلا فيها وهكذا.
نحن أمام مفارقة: الدولة الحديثة بحاجة إلى قدر من المرونة لتستوعب التعدد، واستيعاب التعدد ليس بإعطاء نفوذ لمتصدر أو حزب أو تعميم معنى السلطة على الهياكل الإدارية للبلد لأننا نحتاج إلى نواة صلبة من الهوية والانضباط المؤسسي حتى لا تتحول فكرة المرونة إلى فوضى، هذه النواة يمكن أن تكون فكرة دستورية كالتي طرحت هنا جعل المجالس المحلية من موظفي الدولة وتعزيز فاعلية دوائر المحافظات، والاهم هو القانون المناسب لضبط السلوك واستنهاض الكينونة التي جرى تمزيقها.
خلاصات:
ليس نظريًا، بل عمليا، الدول التي نجحت في الفيدرالية كانت قد حسمت هويتها الوطنية أولًا، ثم وزّعت السلطات كنظام لا مركزي لسعة الأرض أو فيدرالية مهام، أما الدول التي بدأت بالتوزيع قبل الحسم، فقد غرقت في النزاعات حتى تدرك أن الفدرالية صيغة اتحاد إدارية ليست أيديولوجيا وعندما تؤدلج تكون صيغة متحد لافتراق وبالتالي عدم استقرار وصراعات.
إن التجانس الوطني، الإداري والثقافي، ليس ترفًا، بل أساس وجود، فانت لا يمكن أن تقيم دولة تقوم على أساس رفض الآخر أو احتقاره أو كراهية بين الأطياف وعصبيات مثارة، ناهيك عن شرعنه عرفية للفساد.
الإصلاح والتمكين لن يأتي بالتمايز والاستقطاب أو تعالي سخيف يظنه الجاهل مظهرا للتمكين، فهذا جهل وتخلف، بل بالمحبة والاستيعاب! والغاية هي البناء الذي هو بناء هوية الأمة ولا نعني بناء ناطحات السحاب بلا هوية، أما تقسيم الولاءات وغنى طبقة بزعمها الدفاع عن فئة فهذا ليس مستديما منطقا وان طال الزمن وجهَّلت واستعمرت الأدمغة، نحن أمام سؤال تفرضه ولادة عسرة ويحتضر جنينها، هل سنسلك الحكمة أم كما يقال “انكسرت الجرة وتفرق أبناء الحرة”.

أحدث المقالات

أحدث المقالات