في مدينة القاسم، تلك المدينة الصغيرة الواقعة جنوب محافظة بابل، وُلد كوكب حمزة الأحمد عام 1944. ولم يكن اسمه مجازًا فنيًا أو استعارة شعرية، بل كان مصادفة قدرية كأنما اختارته الموسيقى من بين الأطفال ليكون لها صوتًا وضميرًا. اسمه كان كوكبًا، ومسيرته فعلُ إشراقٍ طويل، شقَّ غيم السياسة، والمنفى، والخذلان، ليبقى حاضرًا في ذاكرة الأغنية العراقية كواحدٍ من ألمع من أنجبهم هذا الفن الملتزم.
عرفته في مدينتي القاسم، وكنّا من أبناء زقاق واحد، أبناء بيئة واحدة وحلمٍ يساريٍ مشترك، يربطنا بأسرته ودّ لا يشوبه غبار السياسة أو تغيرات الأزمنة. لم تكن بيننا مساواة في العمر، فقد كان يكبرني بست سنوات، لكن قربه من أخي الأكبر جعلني أراه كما يرى الصغار أوتادهم العالية. كان نقيًا، عطوفًا، يضفي على الجلسة سكينة، وعلى الصمت دفئًا.
أكمل كوكب دراسته الابتدائية في القاسم، ثم انتقل إلى الحلة ليواصل المتوسطة والثانوية، قبل أن يشدّ الرحال إلى بغداد، مدينة التحولات الكبرى، حيث درس في معهد الفنون الجميلة ثم في معهد الدراسات الموسيقية، ليصقل موهبة كانت تغلي منذ صباه، ويتخذ من الموسيقى قدرًا لا فكاك منه.
في البصرة، المدينة التي تنام على الماء وتستيقظ على المواويل، بدأ معلمًا للفنية في مدرسة المربد، وهناك، وسط زخم الشعراء والمغنين الشعبيين، شعر أن الأغنية العراقية بحاجة إلى روح جديدة. كان يراقب تطور الأغنية العربية، لا سيما المصرية، ويشعر بأن ما لدينا كان ما يزال مكبلاً بالمقام والموال والبستة، فقرر أن يغامر، أن يخرج من العباءة الثقيلة ليبتكر صوتًا حديثًا، يحمل تراثه على كتفيه، لكنه لا يتوقف عنده.
جاءت أغنيته الأولى “مر بيّه” ولم تُوفّق، لكنه لم يتراجع، فكانت “يا نجمة” – بصوت حسين نعمة – حدثًا موسيقيًا مفصليًا، مزج فيها بين الفولكلور العراقي والموشح الأندلسي، وبين الحنين الجنوبي والغناء الحضاري. ثم تتابعت الأعمال: “القنطرة بعيدة”، “أفيش”، “بساتين البنفسج”، “محطات”، “يا هوى الناس”، وكلها تحوّلت إلى علامات في ذاكرة الذائقة العراقية، وأيقونات تُتداول حتى بعد أن مُنعت رسميًا.
في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، أصبح كوكب حمزة من أبرز الملحنين الشباب الذين شكّلوا ما عُرف بموجة “الأغنية العراقية الحديثة”. وكان إلى جانب أصوات جديدة آنذاك مثل سعدون جابر، فاضل عواد، حسين نعمة، وغيرهم، فاختلطت أسماء الشعراء بالشعراء، والأنغام بالحناجر، والأحلام بأوجاع السياسة.
ولأنه اختار الوطن في ضميره، لا في شعارات السلطة، اصطدم بالنظام مبكرًا. رفض تلحين قصائد تمجّد حزب البعث، فتعرّض للتهميش والإقصاء، ونُقل من أستاذ جامعي إلى موظف إداري. ثم تلقّى نصيحة صديق مقرّب بالخروج الفوري من العراق. فكانت محطته التالية المنفى الطويل.
في 21 تموز 1974 غادر العراق، عبر زمالة دراسية إلى تشيكوسلوفاكيا، ومنها إلى الاتحاد السوفيتي، قبل أن يستقر في الدنمارك عام 1989، مرورًا بكردستان والشام، حيث التقى نخبة من الشعراء الذين سيشكّلون معًا وجدان جيل منفي. كان من بينهم مظفر النواب، أحمد فؤاد نجم، ممدوح عدوان، رياض النعماني، بندر عبد الحميد، محمد مظلوم، ، وغيرهم ممن اجتمعوا في حواضر المنفى، وكانوا يتداولون الوطن شعرًا ونغمًا ومقاومة.
في أوروبا، لم يصمت كوكب حمزة، بل ظل صوته حاضرًا. لحّن “وداعًا بابل” عام 1992، و”الجراد يغزو بابل”، وعشرات الأغنيات التي بقيت تتداول في الجلسات الخاصة وذاكرة الشتات، في حين كان النظام يعدّ مجرد حيازة أحد أشرطته تهمة. وفي المغرب، حيث ذهب لاحقًا للدراسة، اكتشف المطربة أسماء لمنور ولحن لها “دموع إيزيس” بمناسبة تكريم الشاعر أحمد فؤاد نجم في القاهرة.
كان بحق “مكتشف الأصوات”، إذ قدّم أهم الأصوات العراقية في السبعينيات والثمانينيات، وامتدت تجربته حتى وصلت إلى أصالة نصري في بداياتها، وعبد الله الرويشد، وآخرين من أرجاء الوطن العربي.
لم يكن الملحن في كوكب حمزة منفصلاً عن المناضل. ففي مطلع الثمانينيات، ترك الدراسة، والتحق بقوات الأنصار في كردستان، حاملاً بندقيته ضد الديكتاتورية، وصوته في سبيل الحرية. ثم عاش متنقلاً بين العواصم، تسبقه أغانيه وتلاحقه المنافي.
عاد إلى العراق بعد سقوط النظام، في زيارات قصيرة، التقيته في الحلة وبغداد، كما التقينا في دمشق، وكان في كل مرة الإنسان ذاته الذي عرفته صغيرًا: بسيطًا، نبيلًا، صادقًا، يزن العلاقات بميزان المحبة.
في الثاني من نيسان عام 2024، أغمض كوكب حمزة عينيه إلى الأبد في كوبنهاغن، بعد صراع طويل مع المرض، مخلفًا وراءه رصيدًا من الألحان التي ستبقى شاهدة على زمنٍ كان فيه الفن موقفًا، لا مهنة. رحل عن ثمانين عامًا، لكنه بقي بيننا، حيًا في كل وتر، وفي كل ذاكرة ما زالت تتأرجح بين “يا طيور الطايرة” و”شوق الحمام”.
لقد كان كوكب حمزة صوتًا موازيًا لتاريخ العراق الحديث، تنقّل بين الأمكنة، لكنه لم يغادر الوطن الذي نحمله جميعًا كحلم، وكغصة… في القلب.