أفكار متشابهة ومفردات كُثُر استعمالها، تُنَبّه القارئ إلى مسألة محورية في بنية الإنتاج الأدبي المعاصر، أو ما يمكن تسميته بـ”الراسخ في الذهن”، ذلك الذي يتسلّل خفيًا إلى النصوص، سواء أكان بشكل واعٍ أو لا واعٍ، ويمتزج بفكرة التناص التي طالما كانت مجالًا للجدل بين الأصالة والتأثر، وبين الاجترار والتجديد.
إنَّ النتاج الأدبي، في أن يكون النص مستقلًّا من حيث الفكرة والسرد، هو إشارة واضحة إلى اتجاه نحو التجديد، لا لأنه يقطع مع الماضي قطعًا نهائيًّا، بل لأنه يرفض أن يكون مجرد صدى لما سبق.
هذا النوع من الكتابة لا ينبعث من منطلق فكرة سابقة تترسّب في الذهن إثر القراءة، بل يتشكّل من بنات أفكار الكاتب، سواء كان قاصًّا أو روائيًّا أو شاعرًا، من تجربته الخاصة، ومن رؤيته المتفردة للعالم.
لكن، هل يمكن للنص أن يتخلّص كليًّا من “الراسخ في الذهن”؟ وهل يستطيع الكاتب أن يعزل نفسه عن أثر القراءة والتلقّي؟ ربما لا؛ فالتناص ـ كما يُفهَم في النقد الحديث ـ ليس تكرارًا ساذجًا أو سرقة أدبية، بل هو اشتباك حيٌّ مع نصوص سابقة، إعادة قولبة، أو تحوير دلالي يتوسّل نصًّا قديمًا ليقول ما هو جديد.
في ضوء هذا، فإن الخط الفاصل بين النص المستقل والنص المتناص يصبح رفيعًا، وربما خادعًا. فالنص الذي يبدو لأول وهلة “جديدًا”، قد يكون أكثر امتلاءً بالتأثّر من نص يعلن صراحة تواصله مع مرجعياته. هنا تتجلّى براعة الكاتب، في قدرته على “توليد الاختلاف” حتى من رحم التشابه.
الأدب اليوم، في زمن كثافة الإنتاج وتكرار الموضوعات، بحاجة إلى أصواتٍ تعي هذا الفخ، وتتفادى السقوط فيه. فالأصالة لا تعني اختراع العالم من جديد، بل تعني إعادة رؤيته من زاوية لم تُجرَّب من قبل، وتفكيك “الراسخ في الذهن” لا يعني التنكّر له، بل مساءلته، والانطلاق منه إلى أفق لم يُختبر بعد.
بهذا، يصبح التناص وسيلة لا غاية، أداة لفتح النص لا لغلقه، وتتحوّل الأفكار المتشابهة إلى أرضية اختبار، يُثبت من خلالها الكاتب مدى تفرّده وقدرته على خرق المألوف، والعبور من ضبابية الذهن إلى شفافية الرؤيا.