في دروب اللغة، حيث تختبئ المفردات وراء ظلال المعاني وتتشكل وفق السياقات، يطلّ علينا جدل قديم جديد: هل “فشل” تعني “أخفق”؟ أم أن بينهما مسافة من الدلالة لا ينبغي اجتيازها دون تمعن؟
يرى بعض أهل اللغة أن استعمال “فَشِلَ” بمعنى “أخفق” ليس من الصواب، مستندين إلى ما ورد في المعاجم الكبرى، ومنها “لسان العرب”، الذي يجعل الفشل قريبًا من الجبن والضعف والتراخي. فابن سيده يقول: “فَشِل الرجل فَشَلًا، فهو فَشِل: كسل وضعف وتراخى وجَبُن.” وهذا المعنى يتكرر في تفسير القرطبي للآية ﴿حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ﴾، حيث فُسّر الفشل على أنه تراجع في العزيمة وانكسار في الإرادة.
لكن القراءة التامة للنصوص التراثية لا تقف عند هذا الحد، فـ”الفشل” لم يكن دائمًا قرينًا للجبن، بل قد دلّ على الامتناع عن المضيّ خوفًا أو رهبة، وهو ما يقارب معنى “الإخفاق”. ففي كتاب “الكامل” للمبرِّد، نقرأ: “فشلكم عن حقكم، يقال: فشِل فلان عن كذا، إذا هابه؛ فنكل عنه، وامتنع عن المُضيّ فيه.” وهي صورة تعكس الفشل لا بوصفه ضعفًا ذاتيًّا، بل تراجعًا أمام هيبة الأمر أو ضخامته.
وإذا تأملنا في اللغة المعاصرة، نجد أن “الفشل” و”الإخفاق” يتقاطعان كثيرًا في الاستعمال اليومي، خاصة في ميادين الحياة العملية والتعليمية. فقد أصبح “فشل المشروع” مرادفًا لـ”إخفاقه”، و”فشل الطالب في الامتحان” يعني تمامًا ما تعنيه عبارة “أخفق فيه”.
فالفرق بين الكلمتين، إن وُجد، يتحدد بمقدار الوعي الذي يرافق الفعل، وبمقدار الشعور بالضعف أو الندم بعده. “أخفق” قد تشير إلى المحاولة الجادة التي لم تُثمر، بينما “فشل” قد تحمل ظلال العجز أو الانكسار. لكن هل ترقى هذه الفروق إلى مستوى التحريم أو الخطأ؟ أم أنها تباينات في التذوق اللغوي تُثري التعبير ولا تُقصيه؟
ربما يكون الجواب في اعترافنا بجمال اللغة حين تتعدد، وقوتها حين تتسع لتحتمل المعنى والمجاز، فتجعل من “الفشل” و”الإخفاق” مفردتين لكلتاهما مكان، ولكلتاهما حكاية.