في عيد الصحافة الشيوعية… حين تُقاتل الكلمة

في عيد الصحافة الشيوعية… حين تُقاتل الكلمة

حين تُطوى الأيام وتتقدّم بنا الذاكرة نحو31 تموز1935، ينبعث من رماد الزمن صوتٌ خافتٌ لكنه عنيد، كأنه همسٌ من ورقٍ صُقل بالأمل، ونُقش بالحبر الأحمر… إنه صوت الصحافة الشيوعية في العراق، يعود في ذكراها ليوقظ الضمائر، ويذكّر بأن الكلمة يومًا ما، لم تكن حبرًا على ورق، بل شُعلة في زمن الرماد، وسلاحًا بأيدي البسطاء العزّل.

لم تكن الصحافة الشيوعية وليدة فراغ، ولا صدى لحبر مرتجف، بل كانت استجابة حقيقية لصوت الشعب، وصرخة أطلقتها الحناجر المكبوتة في وجه الاستغلال، والاستبداد، والغزو الخارجي، والهيمنة الطبقية. ومنذ لحظة انبثاقها الأولى عام 1924 مع صدور صحيفة الصحيفة، مرورًا بـكفاح الشعب التي وُلدت في الثلاثين من تموز عام 1935، حملت الصحافة الشيوعية راية الوعي والمعرفة والنضال.

رفعت كفاح الشعب شعار “يا عمّال العالم اتحدوا”، ولم يكن هذا الشعار زينة لغوية، بل إعلان انتماء أممي ورسالة التزام تُرجمَت عبر مقالات ومواقف شجعت على الكفاح الطبقي، ودعت إلى التحرر الوطني والاجتماعي. كانت عيون السلطة تراقبها، وخوف الحكومات من سطورها لا يقل عن رعبها من سلاح الثوار، فكان الإغلاق والملاحقة مصيرًا متكررًا.

لكن ما إن تُغلق صحيفة حتى تولد أخرى: الشرارة، القاعدة، العصبة، الأساس، اتحاد الشعب، ثم طريق الشعب التي صمدت رغم القمع والملاحقة والتشريد. لم تكن مجرد أوراق تطبع في الخفاء، بل كانت شريانًا سريًا يغذي قلب الوطن، تزرع الوعي بين العمال، والفلاحين، والطلبة، والنساء، وتمنح المهمشين صوتًا وحضورًا.

لقد أدرك الحزب الشيوعي أن الوعي لا يُفرَض من فوق، بل يُنتزع من صميم المعاناة. فكانت صحافته هي المعلم والمحفّز، والرفيق الذي لا يكلّ في ليل الحصار، ولا يهادن في نهار القمع. ساهمت في تكوين جيل يكتب بحبر المسؤولية، ويقرأ بنَفَس التغيير، ويحلم ببلاد لا يُهان فيها الإنسان.

وما يُقال عن الصحافة الشيوعية لا يُحصر في التوثيق الزمني لأعدادها ونسخها ومواضع طباعتها، بل في أثرها العميق الذي تجاوز الأوراق ليبلغ ضمير الأمة. لقد كانت مدارس متكاملة للفكر السياسي والاجتماعي والثقافي، وساهمت في ولادة صحف وطنية عديدة تبنّت النهج الديمقراطي والتقدمي.

وكم من صحفي شيوعي سقط شهيدًا لا دفاعًا عن عمود صحفي، بل عن قضية، عن حلمٍ لشعب بأكمله. قُتلوا لأنهم كتبوا، وكتبوا لأنهم آمنوا، وآمنوا لأنهم اختاروا أن يكونوا في صف الفقراء والمظلومين، لا على موائد السلطة ولا في جيوب المنتفعين.

اليوم، في هذا المفصل التاريخي الذي تتكالب فيه الأزمات، وتمتزج فيه أصوات التزلف بالدعاية، يبدو المشهد الإعلامي العراقي في أمسّ الحاجة إلى عودة روح الصحافة الشيوعية، لا كتنظيم سياسي فقط، بل كموقف. كجذرٍ راسخٍ في أرض العدالة، وقلمٍ لا ينحني إلا ليغمس في دم الشهداء.

إن الاحتفال بعيد الصحافة الشيوعية ليس مجرد استذكار تقليدي، بل تجديد عهد مع الوعي، مع الكلمة النزيهة، مع الحبر الذي لا يُساوِم. هو تكريم لذاكرة من صنعوا مجد الكلمة لا في البلاط، بل في الأزقة، والمنافي، والسجون، وفي قلوب الشعب.

ولذلك تبقى هذه الصحافة ركنًا متينًا في بنيان الصحافة العراقية الحرة، مدرسة لا تُدرّس في الجامعات بل تُكتَسب في الميادين، في ساحات الاحتجاج، في معارك الدفاع عن حقوق العمال، والمرأة، والقوميات، والحريات المدنية، والكرامة الوطنية.

ستبقى هذه الصحافة حيّة ما دام في العراق مَن يؤمن أن الحبر دمٌ، وأن المقال جبهة، وأن الكاتب الحقيقي هو من ينتمي إلى وجع الناس، لا إلى امتيازات السلطة.

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات