أمام فشل النظام الرأسمالي لماذا أنتم صامتون؟

أمام فشل النظام الرأسمالي لماذا أنتم صامتون؟

حقوق الإنسان تلك العبارة الجميلة التي كان ينبغي أن تكون درعًا للمشردين والضحايا، أصبحت أكثر نكتة مأساوية في التاريخ المعاصر. أين حقوق الإنسان عن كل مايجري في العالم ومايجري بالاخص في مدينة الاشباح الغزة عندما تُحصي عظام طفل جائع واحدةً واحدةً وهو يُحدّق في الكاميرات؟ ماذا تعني العدالة عندما تصبح المستشفيات مقابر للأحياء؟ ما قيمة الديمقراطية حين تُمحى إرادة شعبٍ في الحياة بإرادة قوةٍ قاتلة؟ اتضح أن هذه المفاهيم لا أساس لها في الواقع؛ إنها مجرد أقنعة حضارية لإخفاء الوجه الحقيقي للقوة. اليوم، سقط هذا القناع على وجه غزة الدامي، كاشفًا عن وجهٍ قبيحٍ من اللامبالاة والأنانية وانعدام الضمير. هذا هو أعظم فشل فلسفي في عصر ما بعد الحداثة، موت المعاني. قُتلت الكلمات وعُرضت جثثها على الشاشات، دون أن يبكي عليها أحد. هذا هو أعظم فشل للنظام الرأسمالي، الذي يُخبرنا بشيء واحد: البربرية. المأساة هنا ليست فقط في دوي الانفجارات وتدمير المباني، بل في الصمت العظيم والعميق المختبئ في قلب الجوع؛ صمت آلاف البطون التي تأكل الهواء بدلاً من الخبز ومعدة يمتص فيها الأطفال أنفاس الدموع وحرق روح الأم المسكينة بدلاً من الحليب. المجاعة في غزة ليست ظاهرة بيولوجية أو إحصائية، بل هي فراشة فلسفية، فراشة حية على مدار الساعة تنمو مع أنفاس كل طفل وتنهد كل شيخ. ما هي الإنسانية عندما يصبح الخبز أقدس من الحياة؟ ما معنى الحياة عندما يصبح الموت جوعاً الخلاص الوحيد؟ هذه هي المأساة التي تتحلل فيها الأجساد وتموت من الداخل، لفقدانها قطعة خبز، قبل أن تُطلق عليها النار. ليست إسرائيل مجرم حرب فحسب، بل هي أيضًا مجرم تاريخي ووجودي.جريمته ليست قتل الآلاف من الناس فحسب، بل هي أيضًا محاولة لقتل الأمل في النفس البشرية ومحو الوجه الإنساني من عدوه، بحيث يصبح قتله مهمة سهلة وضميرية. هذا هو منطق الفاشية في أكثر أشكالها صرامة، وهو تحويل الناس إلى أرقام والحياة إلى إحصاءات على هامش هذه السبورة السوداء، نحن بحاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى فيلسوف مكافح، فيلسوف من نوع ماركس، الذي صرخ: الإنسان هو أثمن ما لدينا. واليوم، يجب أن تأتي هذه الصرخة مرة أخرى، ولكن بطريقة أكثر جذرية وعمقًا، من حنجرة فيلسوف جديد. لأن المجاعة التي تقتل النفوس في غزة نتيجة الفلسفة التي جعلت من الإنسان أداة لا قيمة لها في خدمة السلطة ورأس المال . إن فلسفة مثل نيتشه تتمثل في كسرك. لكن الحاجة ليست فقط إلى فيلسوف كاسر للأصنام، ولكن إلى فلسفة ثورية في حد ذاتها. فلسفة يمكنها تمزيق جسد هذه الحضارة المريض بجراحة تحليلية وكشف الروابط الخفية بين سوق الأسهم في وول ستريت والمجاعة في غزة، يجب أن تكون فلسفة مادية؛ فلسفةٌ تمتزج بمعدةٍ جائعةٍ وتنبض بقلبٍ أمٍّ متألم. فلسفةٌ تُحرر كلمات الحرية والعدالة والكرامة من أسرها السياسي، وتُعيدها إلى معناها الأصلي. لماذا أنتم صامتون؟! هذه هي “خيانة المثقفين” التي وصفها جوليان بيندا. أما أولئك الذين ينزلون إلى الشوارع من أجل أبسط قضية بيئية أو حقوق الحيوان، فيظلون صامتين في مواجهة أكبر جريمة ضد الإنسانية في القرن الحادي والعشرين. صمتهم نعش مخملي للحقيقة مدفون فيه هذا الصمت ليس صمتًا عاديًا. إنها مأساة أخرى في حد ذاتها؛ إنها كارثة فكرية وأخلاقية. عندما يُلقي من سلاحهم الكلمات ودروعهم الضمير أسلحتهم ويُخفون دروعهم، فمن سيكون محارب الميدان؟ وهكذا يموت ضحايا غزة ومضطهدو العالم مرتين: مرة بالقنابل والجوع، مرة أخرى في المقبرة الصامتة لمن كان ينبغي أن يصرخواهذه هي المأساة الكبرى: موت الإنسان على يد الإنسان، وموت الضمير في صمت الإنسان. أصبحت غزة دليلاً يكشف ليس فقط عن الوجه الحقيقي لقواتها، بل عن الوجه الحقيقي للإنسانية جمعاء، وهو في جوهره وجه اللامبالاة والنفاق والجبن، وأخيرًا، الوجه المحطم للإنسانية نفسها اليوم. مهمة هذه الفلسفة هي طرح أسئلةٍ مُزعجة، على سبيل المثال: ما علاقة راحتي بألمهم؟ وما دور صمتي في إدامة هذه الجريمة؟ هذه الفلسفة لا تُكتب بالحبر، بل بدموع ودم وعرق المظلومين.مهمة الفيلسوف الجديد ليست تحليل العالم فحسب، كما فعل معظم الفلاسفة، بل تغييره، كما قال ماركس. يجب أن يستمر هذا التغيير مع الحياة. يجب أن يتحلى بالشجاعة يصرخ: الملك إذا كان الدين في زمن ماركس أفيون الأمم، فقد أصبحت مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان اليوم الأفيون الجديد الذي يُخدر الضمائر، ويُتيح للحكام ارتكاب أبشع الجرائم باسم القيم العليا. هذه الفلسفة لم تولد بين جدران الجامعات والكتب المتربة، بل يجب إعادة كتابتها في الشوارع، في المخيمات، في ألم جوع طفل وفي يأس شاب. فلسفة يجب إعادة كتابتها ليس بالطب المركب، بل بدموع أم من غزة وعرق عامل كردي. صحيح أن العالم ليس خاليًا من الفلاسفة اليوم. فلاسفة راديكاليون مثل سلافوي جيجك موجودون في الميدان، ناهيك عن هابرماس وفوكو ونوح هراري. لكن المشكلة الرئيسية هي أن الزلزال العظيم الذي ضرب البشرية في السنوات الأخيرة كان قويًا لدرجة أن أي صوت فلسفي لم يتمكن من مضاهاة حجم الكارثة

أحدث المقالات

أحدث المقالات