الخطيب الثائر محمد الشبيبي

الخطيب الثائر محمد الشبيبي

لا أظن أني أضيف جديدًا حين أكتب عن الخطيب الحسيني الأكبر، الشيخ محمد الشبيبي، نصير السلم، ووالد الشهيد حسين الشبيبي (صارم). غير أن هذا الشيخ الجليل ظُلِم في حياته وبعد مماته؛ إذ أغفلته القوى الوطنية التي مهد لها الطريق، وتجاهلته المنابر التي كان من روادها.

ولد الشيخ محمد الشبيبي عام 1873م في النجف، المدينة التي احتضنت دراسته وتكوينه الديني والفكري. التحق بالحوزة العلمية وتخرج على يد كبار علمائها، لكنه لم يكن مجرد طالب علم، بل خطيب بليغ استخدم المنبر الحسيني لنقل رسائل الإصلاح والتوعية الوطنية والدينية، فجمع في خطبه بين البلاغة والفكر، داعيًا إلى نبذ الطائفية والوحدة الوطنية، ما أكسبه احترام الجميع.

امتدت علاقات الشيخ لتشمل العديد من الشخصيات التقدمية والوطنية. لم يتردد في الجلوس في مقهى “عبد ننه” الشهيرة، التي كانت ملتقى للمثقفين، متجاوزًا الاعتبارات الشكلية المرتبطة بزيه الديني، مجالسًا عبد الغني وجعفر الخليلي، محمد صالح بحر العلوم، أحمد الرضي الموسوي (والد الشهيد سلام عادل)، محسن عوينة، داوود الملا سلمان، وغيرهم.

كانت مواقفه صريحة في مواجهة الاحتلال البريطاني والدعوة للاستقلال. تعرّض بسبب نشاطه للاضطهاد، ما اضطره إلى مغادرة النجف إلى الناصرية، حيث واصل مقاومته، ثم عاد إلى النجف عام 1920. ومع تحولات الأربعينيات، ازداد حماسه بعد انخراط أبنائه في الحزب الشيوعي، فأخذ يستفيد من قراءاتهم السياسية في تطوير خطابه. لم يتردد في فضح الاستعمار وأعوانه، وكانت خطاباته تستقطب الجماهير، خاصة في المدن الجنوبية والطبقات الكادحة.

في حزيران 1947، حُكم على ابنه حسين (صارم)، عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي، بالسجن ست سنوات، ثم ما لبث أن أُعيدت محاكمته مع يوسف سلمان يوسف (فهد) وزكي بسيم (حازم)، وصدر حكم الإعدام عليهم. نُفذ الحكم بفهد وحازم في 14 شباط 1949، وأُعدم حسين في اليوم التالي، في واحدة من أكثر لحظات القمع السياسي قسوة. دُفنوا سرًا في النجف، ومنعت السلطة إقامة مجالس العزاء، ما ترك أثرًا بالغًا في حياة الشيخ، وأشعل ناره ضد النظام.

كان يردد في خطبه كلمات الإمام علي (ع): “ما رأيت نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيع”، و”من ظلم عباد الله كان الله خصمه”. واستشهد بكلمات أبي ذر الغفاري: “عجبت لمن لا يجد قوت يومه، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه؟“.

 

في انتخابات 1954، رشّح الشيخ نفسه عن الحزب الشيوعي ضمن قائمة “الجبهة الوطنية” بدعم جماهيري واسع، حتى أن الناس قدموا تبرعات لتغطية رسوم الترشيح. غير أن السلطة زجته في السجن وهو في الحادية والثمانين، وأقصت المعارضة بالتزوير والمضايقات.

لم يكن نشاطه محصورًا في المنبر والسياسة فقط، بل ساهم أيضًا في تأسيس جمعيات ثقافية وخيرية، ودعا إلى نشر التعليم ومكافحة الجهل. وكان عضوًا في حركة “أنصار السلام”، التي هدفت إلى تعزيز السلم والعدالة. شارك في مؤتمرها المنعقد في تموز 1954 في بغداد، إلى جانب شخصيات وطنية مرموقة، كما حضر مؤتمرًا آخر في الكوفة، وأصبح عضوًا في لجنتها العراقية.

في خطاباته آنذاك، كان يستند إلى الآيات القرآنية وأحاديث النبي (ص) الداعية إلى السلم والتآخي، مؤمنًا بأن السلام الحقيقي لا يعني غياب الحرب فقط، بل تحقيق العدالة والمساواة.

إعدام حسين كان من أعظم المحن التي واجهها، وسعت السلطات إلى استغلاله للنيل منه، حتى اتهموه أن صرخته “يا حسين” في المجالس كانت موجهة إلى ابنه لا إلى الإمام الحسين (ع)! فرد قائلًا إنه اعتلى المنبر وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وسمّى ابنه تيمّنًا بالحسين، وإنه يفتخر بأن يكون ابنه شهيدًا. وقال في أحد المجالس:

    وإن الألى بالطف من آل هاشم     تأسّوا فسنّوا للكرام التآسيا

واجه الشيخ بعد ذلك المقاطعة والتهديدات، وتُرك وحيدًا إلا من قلة. مُنع من مورد رزقه، وتكررت الاستدعاءات الأمنية، لكنهم كانوا يخشون من غضب النجف، فكانوا يأتونه ليلًا. وكان الشباب يحيطون بسيارته عند ذهابه إلى المجالس، يحرسونه بدراجاتهم النارية ومسدساتهم.

أثناء العدوان الثلاثي على مصر، خُصص له شرطي لمراقبته، وكان يرسل ذلك الشرطي نفسه لقضاء حوائجه من السوق! وظل الشيخ على موقفه رغم كل ما تعرض له.

عند اندلاع ثورة 14 تموز 1958، كان في أوج مرضه، لكن عندما سمع بزغاريد النصر، سالت دموعه، وطلب أن يُعان على الجلوس، قائلاً: “الحمد لله، قبل أن أموت أشهد نهايتهم.” خرج إلى الشارع، رغم مرضه، يهتف مع الجموع، وقال لابنه علي: “الثورة منحتني كامل الصحة!” وفي اليوم العاشر، صعد المنبر مخاطبًا الناس: “كما وعدتكم، لن أفارقكم حتى أقع صريعًا جوار المنبر.”

 

لكن حالته الصحية تدهورت في أيلول، ونُقل إلى مستشفى بغداد الكبير بعد برقية خاصة من وزير الصحة بأمر الزعيم عبد الكريم قاسم. رافقه نجله علي، والشاعر محمد صالح بحر العلوم، والدكتور خليل جميل. دخل الغرفة مستندًا إلى علي، وتوفي في السادس من أيلول 1958، الموافق 21 صفر.

شُيّع الشيخ في موكب مهيب طاف شوارع النجف، ورددت المواكب الحسينية:

    صاح المشيّع صاح… والد حسين الراح

    قـــاهر الاستعمار… ومحرر الأفكار

    سلم وعدالة يريد… والد حسين الراح

امتدت الفاتحة لأربعين يومًا، وشهدت حضور وفود من مختلف أنحاء العراق، أُلقيت خلالها عشرات القصائد والكلمات التأبينية.

لقد جسّد الشيخ محمد الشبيبي نموذج رجل الدين المثقف والمناضل، الذي لم يساوم على مبادئه، وبقي وفيًّا لقيم الحق والعدالة حتى آخر رمق. وسيظل اسمه رمزًا للصلابة والإيمان بالحرية، ومصدر إلهام لكل من ينشد الكرامة.

أحدث المقالات

أحدث المقالات