قصة الحضارة (217):  الدين اليوناني أعطي القداسة لأحداث الحياة الإنسانية

قصة الحضارة (217):  الدين اليوناني أعطي القداسة لأحداث الحياة الإنسانية

خاص: قراءة- سماح عادل

يستأنف الكتاب الحديث عن  الدين في الحضارة اليونانية، وعلاقته بالأخلاق ، والأعياد ودورها في إشعار الفقراء بالرفاهية. وذلك في الحلقة السابعة عشر بعد المائتين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

الأعياد..

يحكي الكتاب عن المناسبات والأعياد في ظل الحضارة اليونانية القديمة: “إن لم يكن في مقدور الدين اليوناني أن يقضي على الحروب، فإنه قد أفلح في تخفيف متاعب الحياة الاقتصادية الرتيبة بما كان يقيمه من الأعياد الكثيرة قال فيها أرستوفانيز: “ألا ما أكثر ما يقدم إلى الآلهة من ضحايا؛ وما أكثر ما يقام لها من هياكل وتماثيل. ومواكب مقدسة! إنا لنشهد في كل ساعة من ساعات العام أعياداً دينية وضحايا عليها أكاليل من الزهر تقرب للآلهة”. وكانت نفقات هذه الأعياد يقوم بها الأغنياء، أما الدولة فكانت تقدم الأموال المقدسة، ومنها تؤدي للشعب رسوم الدخول لمشاهدة الألعاب أو المسرحيات التي كانت تمتاز بها هذه الأيام المقدسة”.

التقويم الأُثيني..

ويواصل الكتاب: “وكان التقويم الأثيني تقويما دينيا في جوهره، وكانت شهور كثيرة تسمى بأسماء ما يقام فيها من أعياد دينية، ففي الشهر الأول شهر هكتمبيون يوليه- أغسطس يقام عيد الكرونيا المقابل لعيد الساتورناليا الروماني، وفيه يجتمع السادة والعبيد في وليمة بهجة طربة. وكان يقام في هذا الشهر نفسه كل أربعة أعوام عيد الجامعة الأثينية، وتعقد فيه مباريات، وتقوم فيه ألعاب مختلفة الأنواع، تدوم أربعة أيام، يسير الأهلون جميعا. بعدها في موكب عام وقور، يحملون إلى كاهنة أثينة الثوب الفخم الموشى الذي كان يوضع فوق تمثال إلهة المدينة؛ والعالم كله يعرف أن هذا هو الموضوع الذي اختاره فدياس ليزين به البارثنون. وفي الشهر الثاني المتاجيتنيون كان يقام المتاجيتنيا وهو عيد صغير يقام تكريما لأبلو. وفي الشهر الثالث شهر بؤدرميون كان سكان أثينة يخرجون إلى إلوسيس لإقامة الطقوس الكبرى الخفية.

وفي الشهر الرابع شهر البيانبسيون كان يحتفل بأعياد البيانبسيا والأسكوفوريا والثسموفوريا وكانت نساء أثينة في هذا الشهر يعظمن دمتر ثسموروس المشرعة بإقامة طقوس أرضية عجيبة يعرضن فيها رموزا لقضيب الرجل ويتبادلن فحش القول، ويمثلن الذهاب إلى الجحيم والعودة منها، ويبدو أن هذه الحفلات كانت رمزا للإخصاب في الأرض وفي الآدميين. وكان شهر ميمكترون هو الشهر الوحيد الخالي من الأعياد.

وفي شهر بوسيديون كانت أثينة تقيم عيد الإتالوا عيد بواكير الفاكهة، وفي شهر جمليون تحتفل بعيد اللينيا تكريماً لديونيسس. وفي شهر أنثسترن كانت تقام ثلاثة احتفالات هامة، الطقوس الخفية الصغرى أو التمهيدية، والديازيا أو التضحية لزيوس ملكيوس، والأنثستريا أو عيد الزهور، وهم أهم الأعياد الثلاثة”.

عيد الزهور..

ويفصل الكتاب أكثر عن عيد الزهور: “وفي هذا العيد الربيعي الذي يقام تكريما لديونيسس ويدوم ثلاثة أيام كاملة كانت الخمر تجري كالأنهار، ولم تكن ترى إلا سكارى على درجات متفاوتة من السكر؛ وكان الناس يتنافسون أيهم يفوق غيره في كثرة الشراب، والشوارع تعج بالحياة والمرح. وكانت زوجة كبير الأركونيين تركب عربة بجوار تمثال ديونيسس وتتزوج به في الهيكل رمزا إلى اتحاد الإله بأثينا. وكان يسري في هذه الطقوس المرحة قليل من الرهبة والعمل على استرضاء الموتى وكف أذاهم وكان الأحياء يتناولون في وقار وهدوء وجبة من الطعام إحياء لذكرى آبائهم، ويتركون لهم آنية ملآى بالطعام والشراب، فإذا انقضى العيد أخذ الناس يطردون أرواح الموتى من الدور بصيغة يتلونها ويقولون فيها: “أخرجي من الباب أيتها الأرواح! لقد انتهى عيد أنثستريا” وقد أصبحت هذه الألفاظ مثلاً يقال عندما يراد التخلص من المتسولين الكثيري الإلحاح”.

مسرح..

وعن استخدام المسرح في الأعياد يضيف الكتاب: “وفي الشهر التاسع شهر إلافيبوليون يقع عيد ديونيزيا الكبير الذي أوجده بيستراتس في عام 34. وفي ذلك العام جعل ثسبيس المسرحية في أثينة جزءا من هذا الاحتفال. وكان ذلك في أواخر شهر مايو والربيع مقبل والبحر هادئ صالح للملاحة، فأقبل التجار والزائرون حتى ازدحمت بهم المدينة وتضاعف عدد من يشاهدون الحفلات والمسرحيات. وأوقفت جميع الأعمال، وأغلقت دور القضاء، وأطلق سراح المسجونين ليستطيعوا الاشتراك في الحفلات. وخرج الأثينيون على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم في أزهى الملابس ليشتركوا في الركب الذي جاء بتمثال ديونيسس من إليوثيزا لوضعه في مقره.

فركب الأغنياء العربات، وسار الفقراء راجلين، ومن ورائهم قافلة طويلة من الحيوانات لتهدي إلى الآلهة واشتركت في هذا الموكب فرق من المغنين أقبلت من مدن أتكا تتبارى في الغناء والرقص. وفي الشهر العاشر شهر منيكيون كانت أثينة تحتفل بعيد المنيكيا، وكانت تحتفل كل خمسة سنين بعيد البرورونيا تكريما لأرتميس. وفي شهر ثراجليون يقع الثراجليا أي عيد حصاد الحب. وفي الشهر الثاني عشر شهر سكروفريون كان يحتفل بأعياد اسكروفوريا، وأرتوفوريا، ودبوليا وبوفنيا ولم تكن هذه الأعياد كلها أعيادا سنوية، ولكنها، حتى ما لم يكن يحتفل به منها إلا كل أربع سنين، كانت تخفف كثيرا من كدح الحياة اليومية. وكان لغير أثينة أيام مقدسة شبيهة بهذه الأيام؛ وكان كل موسم من مواسم الزرع أو الحصاد في الريف يستقبل بمظاهرة البهجة والمرح”.

أعياد الجامعة الهيلينية..

وكان أعظم من هذه الأعياد كلها أعياد الجامعة الهيلينية، والحفلات العامة الجامعة. ومن هذه الأعياد عيد الجامعة الأيونية في ميكالي وعيد أبلو ديلوس؛ والعيد البيثي في دلفي، وعيد البرزح في كورنثة، والعيد النميئي في أرجوس، والعيد الأولمبي في إليس. وكانت تقام في هذه الأعياد مباريات رياضية بين الدول المختلفة، ولكنها كانت في أساسها أياما مقدسة. فقد كان من حسن حظ بلاد اليونان أن كان دينها من العناصر البشرية وأن كان فيها في آخر أيامها من العناصر الإنسانية الرحيمة ما يكفي لاقترانه بالفن، والشعر، والموسيقى، والألعاب، واقترانه آخر الأمر بالأخلاق اقترانا جعله مصدر السرور والإبداع”.

الدين والأخلاق..

وعن علاقة الدين بالأخلاق لدي اليونانيين: “يبدو لأول وهلة أن الدين اليوناني لم يكن ذا أثر كبير في الأخلاق، فقد كان في أصله طائفة من قواعد السحر لا من قواعد الأخلاق القويمة، وبقي إلى حد كبير على هذا النحو إلى آخر أيام اليونان. وكان لصحة المراسم والطقوس في هذا الدين شأن أكبر مما للسلوك القويم، ولم تكن الآلهة نفسها، الأولمبية منها والأرضية، مثلا طيبا في الأمانة والعفاف ودماثة الأخلاق.

وحتى الشعائر الإلوسينية الخفية، كانت تجعل التطهير بالمراسم والطقوس لا طهارة النفس وكرم الأخلاق هو العامل الأكبر في النجاة من العذاب وإن كنا لا ننكر أنها كانت تبعث في النفوس آمالا كبارا. وفي ذلك يقول ديوجين الساخر: “سيكون اللص بتيكيون بعد موته أسعد حالا من أجسلوس أو أباميننداس لأن بتيكيون قد كرس في إلوسيس”.

لكن الدين اليوناني، رغم هذا، كان عونا خفيا للشعب وللدولة في أكثر الشؤون الأخلاقية حيوية. من ذلك أن مراسم التطهير وإن كانت كلها مظاهر خارجية كانت ترمز إلى الأخلاق القويمة. كذلك كانت الآلهة تعين على الفضيلة وإن كانت هذه المعونة عامة غير دقيقة، وغامضة، وغير مطردة. ذلك أنها كانت تغضب على الشرير وتنتقم من المتكبر، وتحمي الغريب، وتستجيب لمن يتوسل إليها، وتحمي بجبروتها قدسية الأيمان. فهم يقولون لنا إن ديكي كانت تعاقب على كل ظلم، وإن يومنيدس الرهيب كان يقتفي أثر القاتل، كما يفعل أرستيز، حتى يجن أو يموت”.

قداسة أحداث الحياة..

وعن أهمية الحياة اليومية بتفاصيلها: “وكان الدين يخلع القدسية والكرامة على أهم أجداث الحياة الإنسانية وأنظمها كالمولد، والزواج، والأسرة، والعشيرة، والدولة، وينتشلها من فوضى الشهوات العاجلة. وكانت عبادة الموتى وتكريمهم يربطان الأجيال المتعاقبة برباط من الواجبات المستقرة المتصلة. وبفضلها لا تقتصر الأسرة على أن تكون زوجا وزوجة معهما أطفال، أو مجموعة أبوية من الآباء والأطفال والأحفاد، بل تصبح فضلا عن هذا اتحادا مقدسا وتتابعا مستمرا للدم والنار، ترجع أصولها إلى الماضي السحيق وتمتد أغصانها إلى المستقبل البعيد، وتربط الموتى والأحياء ومن لم يخرجوا بعد إلى هذا العالم برباط مقدس أقوى من رباط الدولة مهما قويت.

وكان إنجاب الأطفال واجبا مقدسا موتي يفرضه الدين على الأحياء، ثم لا يكتفي بهذا بل يشجع على النسل بأن يدخل في روع من لا أبناء له أنه قد لا يجد من يواري جسمه التراب أو يعني بقبرهِ بعد وفاته. وقد ظل اليونان بكثرة خيارهم وشرارهم على السواء طالما كان للدين أثر في حياتهم، وكان من نتيجة هذه الكثرة مضافاً إليها الانتخاب الطبيعي الصارم أن احتفظ اليونان بقوتهم ومميزاتهم. وكان الدين والوطنية تربطهما مئات من الطقوس الرهيبة المؤثرة، فكإن أكثر الآلهة والإلهات احتراما في الاحتفالات العامة بطل المدينة المؤله أو بطلتها المؤلهة؛ وكان كل قانون وكل اجتماع للجمعية أو لدور القضاء، وكل عمل خطير يقدم الجيش أو الحكومة، وكل مدرسة وجامعة، وكل هيئة اقتصادية أو سياسية، كانت هذه كلها تحيط بها الاحتفالات والتضرعات الدينية. وبهذه الوسائل كلها كان الدين اليوناني يستخدم لحماية المجتمع والشعب من أنانية الفرد الغريزية. وقوت الفنون والآداب والفلسفة هذا الأثر الديني في بادئ الأمر”.

ثم عملت بعدئذ على إضعافه؛ فقد أخذ بندار، وإسكلس، وسفكليز ينفثون حماستهم الأخلاقية أو فطنتهم في العقائد الأولمبية؛ ورفع فدياس من مقام الآلهة بما خلعه عليها من جمال وجلال؛ وجمع فيثاغورس وأفلاطون بين الفلسفة والدين، وأيدا عقيدة الخلود ليجعلا منها باعثا قويا على حسن الخلق. لكن بروتجراس كان يشك في الآلهة، وسقراط يتجاهلها ولا يأبه بها، ودمقريطس يجحدها، ويوربديز يسخر منها، وانتهى الأمر بأن دكت الفلسفة اليونانية، عن غير قصد منها، قواعد الدين الذي صاغ الحياة الأخلاقية في بلاد اليونان في القالب الذي وجدت فيهِ”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة