العقد الاجتماعي في بناء الدولة الحديثة

العقد الاجتماعي في بناء الدولة الحديثة

بناء الدولة الحديثة ليس مجرد عملية شكلية لإقامة مؤسسات حكومية أو رسم حدود جغرافية، بل هو مشروع وجودي عميق يرتكز على مبدأ أساسي .. العقد الاجتماعي. هذا العقد، الذي غالبًا ما يكون ضمنيًا وغير مكتوب، هو اتفاق بين الأفراد والدولة يحدد الحقوق والواجبات المتبادلة. إنه الجسر الذي يربط بين المواطن والسلطة، وهو الركيزة التي تُبنى عليها الشرعية، والاستقرار، والتنمية الشاملة والمستدامة. تتباين مسارات بناء الدولة الحديثة بشكل لافت بين الدول المتقدمة في أوروبا والتجربة العربية، وهذا التباين يوضح أهمية العقد الاجتماعي ودوره المحوري. ففي أوروبا، كان بناء الدولة عملية عضوية وتراكمية على مدى قرون، حيث سبقت فكرة ( الأمة) و( الهوية القومية ) وجود الدولة، فكانت الهوية هي الأساس الذي بنيت عليه الدولة، وليس العكس. هذا المسار التاريخي الطبيعي أتاح المجال لترسيخ مبادئ سيادة القانون، والفصل بين السلطات، واستقلال القضاء، مما أوجد بيئة خصبة لتشكيل عقد اجتماعي متين يضمن للمواطنين حقوقهم ويفرض عليهم واجباتهم، وكانت العلاقة بين الدولة والمواطن علاقة تكاملية ومساءلة. على النقيض من ذلك، فإن التجربة العربية كانت متأخرة ومتأثرة بظروف خارجية، حيث تشكلت معظم الدول العربية الحديثة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية والاستعمار الأوروبي، مما أدى إلى رسم حدود مصطنعة غالبًا ما تجاهلت الروابط القبلية والعرقية. هذا الوضع أوجد تحديًا كبيرًا، حيث سعت الدولة، بعد تأسيسها، إلى خلق ( هوية وطنية ) جامعة لمواطنيها. هذه العملية المعكوسة أدت إلى ضعف في المؤسسات، وهيمنة السلطة التنفيذية، وغياب الفصل الحقيقي بين السلطات. أصبحت الشرعية تعتمد على القوة أو توزيع الثروات، وبالتالي، كان العقد الاجتماعي في كثير من الحالات ضعيفًا أو مفقودًا، حيث سادت علاقة رعاية أو أبوية بين الدولة والمواطن. إن الفجوة بين النموذجين الأوروبي والعربي تؤكد أن العقد الاجتماعي ليس مجرد مفهوم نظري، بل هو محرك فعلي للتنمية الشاملة والمستدامة. فهو يوفر للحكومة شرعية حقيقية مبنية على ثقة المواطن، وهذا الاستقرار السياسي هو ما يمنح الدولة القدرة على التخطيط والتنفيذ لمشاريع تنموية طويلة الأمد. كما يفرض العقد الاجتماعي على الدولة واجب المساءلة والشفافية، مما يمنع الفساد ويضمن استخدام الموارد العامة بكفاءة. إضافة إلى ذلك، يتضمن العقد التزام الدولة بتوفير الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة لجميع المواطنين دون تمييز، وهذا الالتزام يضمن تكافؤ الفرص ويعزز من رأس المال البشري كقوة دافعة للتنمية. وأخيرًا، يتيح العقد للمواطنين المشاركة في صنع القرار من خلال الانتخابات الحرة ، مما يمنحهم إحساسًا بالملكية تجاه المشاريع التنموية. في الختام، إن بناء الدولة الحديثة لا يمكن أن يكتمل أو يحقق أهدافه التنموية دون وجود عقد اجتماعي راسخ ومحترم. إن تحقيق التنمية المستدامة والشاملة في المنطقة يظل مرهونًا بقدرة هذه الدول على بناء عقد اجتماعي جديد يضع ثقة المواطن في صميم أولوياتها، ويحول العلاقة بين الدولة والشعب من علاقة تبعية إلى شراكة حقيقية.