المقدمة:
تُعدّ ظاهرة الدونية أو عقدة النقص إحدى الإشكاليات النفسية والاجتماعية التي يمكن ملاحظتها في سلوك الجماعات التي تعرضت للتهميش أو الاضطهاد التاريخي، وهي ظاهرة لا تقتصر على طائفة محددة أو قومية معينة ؛ اذ تشمل جميع بني البشر ومن دون استثناء … ؛ لكنها اتخذت أشكالاً خاصة في الوسط الشيعي العراقي نتيجة تراكمات تاريخية طويلة من القمع، والإقصاء، والتمييز المذهبي، مما أنتج وعياً خاصاً بطابع مزدوج: إحساس بالظلم والتفوق الأخلاقي وبالأصالة والعراقة من جهة، وشعور بالتهميش والدونية السياسية والثقافية من جهة أخرى.
أولاً: جذور الظاهرة تاريخياً
- التهميش في العصور الإسلامية المتعاقبة
منذ مقتل الإمام الحسين عام 61 هـ، ساد شعور بين أتباع أهل البيت بأنهم ضحايا تاريخ مقلوب، أدى إلى تأصيل مظلومية جماعية… ؛ اذ لم يتولّ أي شيعي حكم الدولة الإسلامية حتى العصر البويهي ثم الصفوي لاحقًا... ؛ نعم هنالك استثناءات في العصر العباسي وبعده كثيرة الا انها لم ترقى الى مستوى الظاهرة العامة كما هو الحال مع الاسلام السني … ؛ اذ شكل الحكم الاموي الغاشم , والخلافة العباسية – مع مراعاة الاستثناءات التاريخية التي ذكرناه انفا – ؛ ثم الخلافة العثمانية الظالمة ؛مؤسسات سنية الهوية، تعاملت في الغالب مع الشيعة كخطر أمني أو عقدي أو عدو داخلي … .
- في العصر العثماني والملكي
خلال الحكم العثماني، عانى الشيعة من تهميش إداري وتعليمي وحرمان من التمثيل في مؤسسات الدولة.
وفي العهد الملكي الهجين ، رغم الانفتاح النسبي، بقي الشيعة ممثلين بنسبة أقل من نسبتهم السكانية، ما عزز شعورهم بأنهم “مواطنون من الدرجة الثانية”.
ثانيًا: البنية النفسية لعقدة الدونية
- مفهوم الدونية عند ألفرد أدلر
يرى عالم النفس أدلر : أن الدونية تتشكل عندما يشعر الفرد أو الجماعة بالعجز عن التأثير أو فرض الذات في بيئة متفوقة عليه، فيلجأ إلى : التبعية المفرطة... ؛ الانكفاء والعزلة... ؛ العنف كتعويض نفسي... الخ .
- تطبيق المفهوم على الوسط الشيعي العراقي
يظهر الشعور بالدونية في: الانبهار بالنموذج الإيراني... ؛ والتقديس المفرط للرموز الدينية والسياسية ذات الجذور الاجنبية او الغريبة او التي لا تنتمي للأغلبية العراقية في الوسط والجنوب … ؛ وتقديم مكونات الامة العراقية الاخرى على انفسهم وابناء جلدتهم وتبرير جرائمهم واخطاءهم ومجازرهم … ؛ بينما تمارس الاغلبية جلد الذات والانسلاخ عن الهوية الجمعية فضلا عن عدم التعصب لها ؛ والعنف الطائفي كردّ فعل مضاد للذل المتراكم احيانا؛ بل لصد الاجرام التكفيري والارهاب الطائفي غالبا … ؛ واللجوء الى الانغماس في الطقوس والشعائر والعادات والتقاليد بصورة مبالغ فيها … .
ثالثًا: بعد 2003… من الدونية إلى السلطة القلقة وتقديم التنازلات المستمرة
- انتقال الشيعة إلى الحكم
بعد سقوط صدام، اعتلى الشيعة السلطة لأول مرة في تاريخ الدولة العراقية الحديثة... ؛ وبدلاً من التحرر من عقدة النقص، استمرت تنازلات ومجاملات ساسة الاغلبية بل وجمهور الاغلبية نفسها احيانا للمكونات والجماعات الاخرى حتى المتهمة منها بالجرائم والمجازر والخيانات والمؤامرات والعمليات الارهابية … !!
ظهر نموذج “الشيعي السلطوي القلق” الذي يخشى عودة التهميش، فيبالغ في التمسك بالسلطة وذلك من خلال تقديم التنازلات تلو التنازلات واستمرار المعادلة المنكوسة السابقة والقسمة الضيزى تجاه الاغلبية ؛ اذ لم تحصل الاغلبية وفي ظل العهد الديمقراطي الجديد على ربع حقوقها المسلوبة …!!
- التبعية لإيران بوصفها حامية
بسبب غياب الثقة بالذات الجمعية ، وعداء المحيط السني الاقليمي , وتهميش واقصاء الاغلبية الشيعية في العراق لعقود طويلة … ؛ سادت فكرة أن إيران هي “الضامن” لحكم الاغلبية في العراق بل لبقائها و وجودها … ؛ مما عمّق الشعور بالخوف والنقص تجاه المحيط العربي والسني الاقليمي واعاق المسيرة التنموية وتقدم العملية السياسية ؛ مما انعكس سلبا على اوضاع ابناء الاغلبية وعلى مختلف الاصعدة والمجالات ؛ حتى ادعى بعض المغبونين والمظلومين والمحرومين والمساكين من ابناء الاغلبية : ان الفرق بين حياتهم الان وفي عهد الطغمة البعثية والشرذمة الطائفية البائدة طفيف جدا ؛ فالحال نفس الحال , ان لم يزدد سوءا لاسيما في بعض المجالات التي تتعلق بالبيئة والخدمات الاساسية … ؛ ولكن للحق والانصاف , اقول : ان هؤلاء قد بالغوا في عرض معاناتهم ؛ اذ لا تصح المقارنة مطلقا بين العهد الديمقراطي الجديد وبين حكم جماعة العوجة والمجاعة وايام الحديد والنار والزمن الاغبر والسنوات العجاف … ؛ فالفرق بين العهدين كالفرق بين المشرقين بل كالفرق بين الثرى والثريا … .
وبناء على ما تقدم ؛ صرنا لا نستغرب من تملق بعض الساسة لأزلام النظام البائد والشخصيات الارهابية والتكفيرية ؛ بل ان الكثير من الأحزاب والجماعات والحركات والشخصيات الإسلامية الشيعية ما زالت تتصرف بوصفها “أقلية خائفة”، رغم أنها الأغلبية المطلقة ...!!
رابعًا: الأثر الاجتماعي والثقافي
- في الخطاب الديني
المبالغة في طقوس العزاء والتأكيد على البكاء واللطم، يمكن تفسيرها نفسيًا كوسيلة للتفريغ الجمعي لعقدة الهزيمة والدونية.
استخدام لغة “نحن المظلومون، نحن الحق” يقوّي الشعور بالعزلة ويضعف الانفتاح على الآخر… ؛ لاسيما ان الاخر يكن مشاعر الحقد تجاه الاغلبية العراقية .
- في العلاقات البينية داخل المجتمع
ظهور طبقة سياسية شيعية تنظر إلى السنة بعين الريبة والتفوق الأخلاقي والاصالة الوطنية ، وطبقة شعبية تخشى التعايش وتفضل الانغلاق… ؛ مما أنتج مجتمعات شيعية منقسمة داخليًا بين عروبيين وإيرانيين، وبين ماضويين وحداثويين , دينيين وعلمانيين , مسلحين ومدنيين … الخ .
خامسًا: نحو تجاوز الدونية
مقترحات فكرية ومجتمعية:
تفكيك خطاب المظلومية وتحويله إلى مشروع وطني جامع لا فئوي… ؛ وإحياء الهوية العراقية الجامعة، والتمييز بين التشيع كعقيدة والتشيع كأداة سياسية والشيعة كمكون اجتماعي عريق وكبير بل ويمثل الهوية الوطنية الاصيلة ... ؛ وتجفيف منابع التكفير والعنصرية والطائفية والانفصالية لدى المكونات الاخرى … ؛ وتحرير العلاقة مع المرجعية الدينية والسياسية، وإعادة بناء العقل الشيعي على أساس وطني لا طائفي ... ؛ والعمل على انبثاق دولة المواطنة والمؤسسات والقانون وحقوق الانسان … ؛ ونقد الذات الجمعية بجرأة وتصحيح السيرة وتغيير المسيرة بما ينسجم والرؤى الحضارية والانسانية المعاصرة … .
خاتمة :
الدونية ليست قدَرًا حتميًا، بل حالة نفسية واجتماعية قابلة للتحوّل… ؛ ما يحتاجه المجتمع الشيعي العراقي اليوم ليس سلطة أو ثأرًا تاريخيًا، بل مصالحة مع الذات والآخر ومع التاريخ… ؛ والتحرر من عقدة النقص لا يكون بالتبعية ولا بالهيمنة، بل ببناء مشروع وطني مستقل وإنساني... .
…………………………………………….
المصادر:
*علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، الجزء 2 و3.
*فالح عبد الجبار، الهوية والمجتمع والتحولات، دار المدى، 2012.
*حنا بطاطو، الطبقات الاجتماعية القديمة في العراق، مؤسسة الأبحاث العربية.
*حسن العلوي، عمر والتشيع.
*إبراهيم الزبيدي، “الطائفية الشيعية ما بعد الدولة”، جريدة العرب، 2022.
*رياض سعد , سلسلة طائفية ساسة العراق وعنصريتهم .