ما إن التأمت ذاكرة الزقاق من اختفاء ابن البناء، حتى تفجّرت عاصفةٌ جديدة.

كان صوت الشجار هذه المرة مختلفًا. ليس صراخ صبيّ يرمي بالحجارة، بل هدير رجالٍ، وانفلاتُ كلماتٍ تنغرزُ مثلَ شظايا الزجاجِ في الهواء.

في البدء، بدا الأمر كما لو أنه شجار عابر؛ الصبيّ الكبير، الذي لم يكبرْ عقلُه، تعقّب طائرًا صغيرًا اعتاد اللعب في الساحة الترابية قرب بيت النجار. طار الطائر مذعورًا، فدخل نافذةً مفتوحةً في بيت النجار واختفى هناك. لم يتحمّل صبيّ البناء ذلك، فدفع الباب بقوة، وصاح:

ــ طيري هناك! أرجعه وإلا…

لكن النجار لم يكن من أولئك الذين يرضخون للحماقة. كان رجلًا صبورًا، يتعامل مع الخشبِ ومعداتِ صناعةِ الأبوابِ وغرفِ الأعراسِ بجدٍّ واجتهادٍ. حين فتح الباب ، لم يفتح قلبه.

ظهورُ التشدّدِ كان واضحًا على ملامح وجهه، قال بهدوءٍ جامد:

ــ الطائر اختار، وليس لي عليه سلطان.

حينها، بدأ التراشق، أولًا بالكلمات، ثم بالشتائم التي خدشت شرف الأمهات، ومسّت أعراضًا كان يُفترض ألا تُذكر في الزقاق، خصوصًا تحت نوافذ أم ناصر القريبة من بيت النجار.

اجتمع الناس، هرول بعضهم نحو بيت السيد، لكن ظهوره لم يكن كالسابق. خرج، نعم، لكن ملامحه كانت مثقلة. نظر إلى الجانبين، لم يتكلم. كانت نظراته كأنها تنتظر من يتراجع، أو يعترف بالخطأ، أو على الأقل يصمت. لكن أحدًا لم يفعل.

قال بصوتٍ منخفض لا يشبه سابقَ عهده:

ــ في الزقاق من كبر جسده، وضاق صدره.

ولم يقل أكثر.

عاد إلى بيته، والشتائم لا تزال تتطاير.

عندها، رفع النجار هاتفه، واتصل بالشرطة. صوت صافرةٍ بعيد، كأنها تمزّق جلد الزقاق.

حين وصلوا، انتشروا في الأزقة الضيقة مثل أصابع باردة، يسألون، يدوّنون، ويأخذون الصبي الكبير معهم. كان يضحك، ثمّ يبكي، ثمّ يضحك من جديد.

تبعهم السيد بنظراته من نافذته المسدلة، ثم أغلقها.

في المساء، جلس الكاتب على عتبة بيته، يكتب:

“كل ما تغيّر أن الزقاق لم يعد يخاف السيد… صار يخاف نفسه.”

أما أم ناصر، فقد وضعت قدر اللبلبي جانبًا، وجمعت الطاولة الصغيرة، وجلست على الأرض. نظرت إلى موضع ظلها الغائب، وهمست:

ــ ربما الطيور أذكى منّا… تعرف أين تهرب.

ومنذ تلك الليلة، لم يسمعْ أحدٌ صوتَ الطيورِ في الزقاق. وحده السيد كان يعلّق قفصًا صغيرًا خلف نافذته المغلقة، بداخله عصفورٌ رماديّ، لا يغرّد… لكنه لا يحاول الطيران.

_______________________

 ( *) تكملة قصة زقاق السيد