العراق.. ساحة حرب سرّية وصراع استخباراتي طويل

العراق.. ساحة حرب سرّية وصراع استخباراتي طويل

منذ منتصف القرن العشرين، لم يكن العراق مجرد دولة تتعثر في بناء هويتها، بل تحوّل تدريجيًا إلى ساحة مغلقة لحروب استخباراتية غير مرئية، تقاطعت فيها مصالح القوى الكبرى، وتحددت فيها ملامح الشرق الأوسط الجديد على نار هادئة . 

هذا ما يكشفه كتاب “التدخلات السرية في العراق” للمؤلف ويليام ج. زيمان، الذي يضع بين أيدينا وثائق وشهادات تسلط الضوء على الوجه الخفي للصراعات في العراق، حيث لا دبابات ولا جيوش، بل مؤامرات وغرف مغلقة واغتيالات صامتة .

يتتبع الكتاب جذور التدخل الأميركي في العراق منذ العهد الملكي، حين كانت واشنطن تنظر إلى العراق باعتباره خاصرة رخوة في صراعها مع الاتحاد السوفيتي . 

ومع صعود عبد الكريم قاسم، بدأ القلق الأميركي يتحول إلى تحرك سري عبر دعم قوى مضادة داخلية، أبرزها حزب البعث، الذي شكّل رهاناً استخباراتياً جريئاً . 

يكشف زيمان عن دور وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في انقلاب 1963، ويوثق تعاونها مع ضباط بعثيين عبر قوائم جاهزة لتصفية الشيوعيين، في ما بدا أنه أول تدخل مباشر لتغيير الحكم في بغداد عبر أدوات داخلية .

لكن العلاقة بين واشنطن وبغداد لم تكن مستقرة، فتحوّل صدام حسين من حليف ضمني إلى خصم معلن، خاصة بعد غزو الكويت . 

في هذه المرحلة، تبدأ فصول أخرى من التدخلات تتسم بقدر أكبر من العنف والعلنية . يستخدم زيمان الوثائق السرية ليعرض كيف شنت الولايات المتحدة حروباً استخباراتية متعددة المستويات، تراوحت بين دعم جماعات معارضة، ومحاولات اختراق الحرس الجمهوري، وصولاً إلى خطط اغتيال لصدام ومسؤولين مقربين منه . 

وفي خلفية هذه العمليات، كانت هناك دائمًا شبكات تجنيد وتحليل نفسي وإعلام مضاد، تشارك فيها أطراف دولية متعددة، وليس واشنطن وحدها .

بعد عام 2003، ومع سقوط النظام، لم تتوقف الحرب السرية، بل تصاعدت . 

العراق أصبح دولة منهكة تتقاسمها أجهزة استخبارات متعددة، تتصارع لا على إسقاط نظام بل على هندسة واقع سياسي واجتماعي طائفي يخدم مصالح الخارج . 

يشير زيمان إلى أن الفوضى التي أعقبت الغزو لم تكن نتيجة عفوية، بل ثمرة خطط مدروسة لتفكيك الدولة المركزية، وإعادة تشكيل المجتمع على أساس الهويات الفرعية . 

في هذا السياق، تحولت الميليشيات إلى أدوات فعالة في صراع غير معلن، شاركت فيه قوى إقليمية ودولية، ولعبت فيه الطائفية دور الوقود والمبرر .

المثير في الكتاب ليس فقط ما يكشفه من وثائق، بل تحليله العميق لأساليب القوة الناعمة، والتلاعب بالرأي العام، وبناء العملاء، وإعادة تشكيل النخب السياسية والثقافية والدينية . 

فالتدخل لم يكن أمنياً فقط، بل ثقافياً أيضاً، عبر تمويل منظمات، ورعاية قيادات دينية، ودفع نخبة جديدة إلى الواجهة مقابل إقصاء أخرى . 

وهكذا، تحوّل العراق من بلد يحكمه نظام شمولي إلى فضاء فارغ تُدار فيه الأمور عبر وكلاء، تُصنع قراراتهم خارج الحدود .

النتيجة التي يلمّح إليها زيمان دون تصريح مباشر هي أن العراق، حتى حين يعلن سيادته، يظل مرتهناً لتوازن معقد من التدخلات غير المعلنة، وأن استعادة استقلاله الفعلي لا تمر فقط عبر خروج الجيوش، بل عبر تفكيك الشبكات الاستخباراتية العميقة التي ما تزال تحكم ظله . 

الكتاب يطرح سؤالًا مؤلمًا دون أن يجيب عنه : 

هل العراق ما بعد 2003 كان فعلًا دولة مستقلة، أم مجرد ساحة لصراعات الآخرين، تُدار باسم الديمقراطية وتُقسم باسم الطوائف؟

إن قراءة زيمان لا تكتفي بإعادة سرد الأحداث، بل تفكك آليات السيطرة، وتضع القارئ أمام مسؤولية مواجهة التاريخ بعيون مفتوحة. فالعراق لم يُحتل فقط بالدبابات، بل بالنوايا، والخطط، والخداع، والخرائط التي رُسمت بعيدًا عن بغداد، ثم نُفذت عبر عملاء الداخل وصمت الخارج .