30 يوليو، 2025 11:12 م

المقدم إبراهيم كاظم الموسوي… نبيلُ الحلة ودرعُ الثورة الذي انكسر بصمت

المقدم إبراهيم كاظم الموسوي… نبيلُ الحلة ودرعُ الثورة الذي انكسر بصمت

في مدينة الحلة، حيث ينبت الورد على ضفاف الفرات وتفوح من الأزقة رائحة الطيبة والنخوة، وُلد الشهيد المقدم إبراهيم كاظم الموسوي سنة 1924، في بيتٍ عريق النسب، متواضع الحال، مشبع بالقيم والوفاء. لم تكن ولادته حدثًا عابرًا، بل انبثاق نواةٍ لضميرٍ حيٍّ سيحمل على كتفيه همّ وطنه، وينذر حياته من أجل شعبه.

أكمل دراسته الأولى في مدينته، ثم انطلق نحو الكلية العسكرية، حيث التحق بالدورة (24) بتاريخ 12 أيلول 1945، فاختار صنف الدروع، وكأن القدر كان يُهيئه ليكون درعًا حقيقيًا في وجه الطغيان. وبعد تخرجه برتبة ملازم، كان من أوائل المشاركين في حرب فلسطين عام 1948، مقاتلاً لا يُهادن، ومؤمنًا بعدالة القضية.

نبوغه العسكري وكفاءته اللافتة في صنف الدروع، فتحا له أبواب المشاركة الدولية، فاختير ضمن الوفد العراقي بقيادة العقيد داود الجنابي للإسهام في تأسيس وتدريب الجيش الليبي في زمن الملك السنوسي. وفي ليبيا، بين عامي 1955 و1956، لم يكن مجرد مدرب عسكري، بل كان ملهمًا ومؤسسًا، غرس في قلوب الليبيين روح الانضباط وحب الوطن، حتى أن الحكومة الليبية قلّدته وسام الدرجة الأولى، وحيّته بكتب شكر تقديرًا لمساهمته اللافتة في تأسيس صنفها المدرع.

لكنّ درب النضال عند إبراهيم لم يكن محصورًا بالميدان العسكري، فقد انتمى، أثناء دراسته الثانوية، إلى اتحاد الطلبة العام، وبدأت تتبلور لديه ملامح الوعي السياسي، وسرعان ما انخرط في التنظيمات العسكرية للحزب الشيوعي، عاملًا بصمت وجهد ووفاء لا يشوبه تردّد.

وحين أخذ الغليان يعلو في صفوف الضباط الساخطين على فساد العهد الملكي، كان إبراهيم في طليعة الضباط الأحرار. انضم إلى خلاياهم منذ عام 1954، وأدى دورًا محوريًا في ثورة 14 تموز 1958، إذ كان من بين القوات التي زحفت على بغداد فجرًا، وتمركزت قرب دار الإذاعة، ثم أوكلت إليه مهمة محاصرة قصر الرحاب لمنع وصول أي دعم قد يجهض ولادة الثورة.

بعد النجاح، خدم إبراهيم في مكتب الزعيم عبد الكريم قاسم، ثم نُسب في 16 كانون الأول 1959 عضوًا في هيئة السيطرة بالمحكمة العسكرية العليا الخاصة، لما عُرف به من خلقٍ رفيع، وضبطٍ صارم، وسيرة نزيهة تشهد بها صدور زملائه.

ولم تكتفِ روحه الحرة بثورة واحدة، فحين اشتعلت الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، لبّى النداء متطوعًا، وكان في طليعة المقاتلين الذين ساهموا في دحر المحتل وإعلاء راية الجزائر المستقلة، متجاوزًا الحدود الجغرافية ليؤكد وحدة الدم العربي في معارك الحرية.

وفي صباح 8 شباط 1963، ذلك اليوم الذي أسدل فيه ليل الانقلاب الأسود ستائره على العراق، سمع إبراهيم البيان الأول، فلم يهرب أو يتوارَ، بل توجّه فورًا إلى وحدته العسكرية ليدافع عن الثورة التي ساهم في بنائها. هناك، عند بوابة وزارة الدفاع، حيث كان الزعيم يعتصم مع رفاقه، اعتُقل إبراهيم وأودع سجن معسكر الرشيد.

لم تُمنح له محاكمة، ولم يُسمح له بكلمة وداع، بل صدر عليه حكم الإعدام فورًا، ونُفذ فيه بتاريخ 11 شباط 1963 في مقر اللواء التاسع عشر، إلى جانب العقيد حسين خضر الدوري، والزعيم داود الجنابي، في مشهد قيل إنّ عبد السلام عارف، رئيس الجمهورية الانقلابية، هو من أمر به، مدفوعًا بحقد قديم على كل من بقي وفيًا لعبد الكريم قاسم.

لكن الحلة لم تنس ابنها. يروي الدكتور عدنان الظاهر ملامح شخصية إبراهيم، فيقول: “كان شابًا شهمًا، خفيض الصوت، وفيًّا لأهله وأصدقائه، كثير التواضع، يختلط بالناس في المقاهي، ويشارك شباب مدينته في رياضة الزورخانة”. ويذكر كيف كان يراه، وهو ملازم ثانٍ، يمارس السباحة في شط الحلة، أو يجلس في مقهى أبو سراج على ضفة الفرات، قريبًا من الجسر القديم.

تزوّج من الست وفيقة، كريمة رئيس محاكم الحلة مصلح الدين الدراجـي، وأنجب منها ابنهما البكر حيدر. وعلى الرغم من مسؤولياته العائلية والعسكرية، لم يقطع صلته بالحلة، بل بقي يعود إليها بشوق التلميذ لمدرسته الأولى.

ولعلّ أكثر المشاهد تأثيرًا ما رواه الدكتور عدنان عن زيارته لمكتبة قرطاسية في طرابلس عام 1978، حيث سأله صاحب المكتبة، وهو ضابط ليبي سابق:

ــ “من أين أنت؟”

ــ “من العراق”.

ــ “ومن أي مدينة؟”

ــ “من الحلة”.

فصمت الرجل، نكّس رأسه، وقال بحزنٍ مفاجئ:

ــ “هل تعرف الضابط إبراهيم الموسوي؟”

فردّ الدكتور متأثرًا: “كيف لا أعرفه؟ إنه صديقي وقريب بعض أقاربي.”

فأجاب الليبي: “كان معلّمي… وقد بلغني أنه استُشهد في انقلاب 1963، فهل هذا صحيح؟”

قال: “نعم، للأسف الشديد.”

وغصّت الكلمات في الحلق، فذاك الضابط الليبي، الذي أصبح بائعًا للقرطاسية بعد تقاعده المبكر بسبب ميوله اليسارية، ظل وفيًا لذكرى من علّمه أولى دروس العسكرية والشرف.

رحل إبراهيم كاظم الموسوي كما يرحل الكبار، صامتًا، شجاعًا، مرفوع الرأس، لم يساوم، ولم يغيّر جلده، ظل حتى اللحظة الأخيرة وفيًا للحلم الذي رآه مع رفاقه فجر 14 تموز.

ولئن لم يحمل جسده النبيل وسامًا عند رحيله، فقد حملته ذاكرة المدن، ورفوف المكتبات، وقلوب الرجال، نسرًا من الحلة، ودرعًا من العراق، وسيرةً لا تموت.

 

الصورة المقدم ابراهيم الموسوي مع الزعيم عبد الكريم قاسم