كانت لوحات بيار – أوغست رينوار من التنوع الى درجة أن ما من موضوع يتعلق بالحياة الباريسية، كما ببعض الحياة الريفية الفرنسية، أفلت من ريشته وألوانه هو الذي رسم المدن والشمال الأفريقي أيضاً، وصخب الحياة الليلية ونضارة الرحلات الخلوية النهارية، طوال عقود من السنين سجّل خلالها، ربما لمن يريد أن يغوص سوسيولوجيّاً في لوحاته، تطور الحياة الاجتماعية الباريسية في شكل خاص. ومع هذا، كانت ثمة وحدة ملحوظة في أعماله وفي تلوينه وأسلوبه تقاسمها معظم اللوحات بحيث، حتى ضمن إطار رسمه المشاهد الاجتماعية المستقاة من معايشاته ومشاهداته، يمكن للناظر الى لوحة له ألا يفكر طويلاً قبل أن يعرف أنه أمام لوحة رينوارية. ولعل المقارنة بين لوحتين لهذا الرسام الكبير، قادرة على أن توضح لنا هذا. فرينوار الذي أمضى أوقاتاً طويلة وممتعة وهو يعيش ويتأمل ويرصد، على سبيل المثال، حياة حيّ مونمارتر وحياة سكانه لا سيما حين يمضون بعض ساعات يومهم ومعظم ساعات الليل في الملاهي والمشارب التي يصعب على سيدات المجتمع وبنات العائلات ارتيادها او حتى الدنوّ منها، وهو ما أوصله الى ذروته في لوحته «حفل راقص في طاحونة لا غاليت» (1876)، سنجده في لوحة أخرى رسمها في العام نفسه، ينتقل مباشرة الى فضاء مناقض كليّاً لفضاء اللوحة الأولى، هو الفضاء الراقي إجتماعياً وفنياً لدار الأوبرا الباريسية ليصوّر في لوحته «الخروج الأول» مشهداً يكاد يشكل موضوع حكاية سردية متكاملة في حدّ ذاته: فكما يقول عنوان اللوحة ثمة هنا، بالتأكيد، زيارة أولى تقوم بها، على الأقل، فتاة واحدة من بين الإثنتين اللتين صورهما الرسام في مقدمة اللوحة.
> فإذا ركزنا النظر على الملامح – حتى غير الظاهرة تماماً – للفتاة التي تشغل الجزء الأكبر من المقدمة، سنلاحظ نوعاً من الدهشة والغربة المذعنة تبديه الفتاة إزاء ما تراه. أما ما تراه فليس سوى المتفرجين الآخرين الجالسين في الصالة وفي اللوجات – المشابهة للّوج الذي تجلس فيه الفتاتان. ونلاحظ أن رينوار قد اختار لمشهده زاوية نظر بادية الغرابة والدلالة في الوقت نفسه كي يقدم لنا موضوعه منها. فنظرتنا نحن مشاهدي اللوحة تكاد تتطابق مع نظرة الفتاة التي يبدو إنها هي المقصودة بفكرة الخروج الأول التي يحملها العنوان. وبالتالي لا يعود الاستعراض الأوبرالي هو ما يهمها في المقام الأول، بل الجمهور نفسه الذي ها هي تدرك، للمرة الأولى على الأرجح، انها باتت جزءاً منه… فتحولت من ذات الى موضوع. وهي هنا، إذ تتأمل ما أمامها بكل اهتمام وببعض الرهبة، تشعر ببعض الأمان على أيّ حال من جراء اطمئنانها لوجود مرافقتها التي نفترض انها، من ناحيتها، معتادة على حضور هذا النوع من الحفلات، ما يعطيها مكانة الذات والموضوع في آن معاً، جاعلاً من موقعها الموقع الذي سيكون للفتاة الأولى في خروج مقبل الى مثل هذا المكان.
> ويعني هذا، في افتراضنا وتفسيرنا للوحة أن رينوار عرف كيف يصوّر هنا لحظة الإندماج الأولى بين الذات والموضوع بقوة تعبيرية مدهشة، وحتى من دون أن يجعل ملامح الفتاة ذات العلاقة تواجه المشاهد مكتفياً بإيماءة غامضة من رأسها وبموقع يدها في اللوحة. وسنلاحظ في المقابل، عبر تأملنا للوحة الأخرى التي أشرنا إليها أول هذا الكلام، لوحة «حفل راقص في طاحونة الغاليت»، كيف أن الرسام قدّم في المقابل تلك المرأة الناظرة الى الرسام وبالتالي الى مُشاهد اللوحة في المقدمة نظرة تشي بأنها تحاول، على العكس من تلك الفتاة في اللوحة الأخرى، أن تخرج من حالتها كموضوع الى حالة الذات، ما يضعنا أمام فرضية ترسم التعارض بين حالتين في العلاقة مع نوعية المكان الذي يجري فيه «حدث» كل لوحة من اللوحتين وموقف رينوار منهما.
> لحظتان إذاً لافتتان في لوحتين لفنان عرف، وإنما أكثر من أي فنان آخر، في زمنه كيف يتوغل في المواقف الإنسانية، مرّكزاً على الفردية في خضّم ما هو عام. ولعل هذا، الى التلوين البديع الذي غالباً ما اعتمد المساحات السوداء، لمجرد إبراز الألوان الأخرى، وهو ما أعطى رينوار خصوصياته الفنية هو الذي كان يعتبر بالنسبة الى الكثيرين، الزعيم الفعلي لفن الرسم الفرنسي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والعقدين الأولين من القرن العشرين. صحيح أن رينوار عاش كل مراحل حياته وفنه ينتقل من تأثير عليه الى آخر، ويبدو لمن يتابع سيرة حياته، وكأنه كان دائماً في الصف الثاني، ومع ذلك فإن نظرة متأنية الى أعماله والى تركيباته وألوانه ستقول لنا، انه غالباً ما كان يتفوق حتى الذين يؤثرون فيه ويعتبرهم، هو، اساتذته الكبار. حدث هذا بالنسبة الى علاقته مع مانيه وسيسلي، وبالنسبة الى استيعابه دروس ديلاكروا وروبنز ورافائيل، وايضاً بالنسبة الى التأثير المتبادل بينه وبين بيسارو. ومن هنا، حين نذكر، اليوم، اسم رينوار، ستقفز امام أذهاننا صورته كزعيم للحركة الانطباعية، على رغم خروجه الدائم على تلك الحركة، او على الأقل على القواعد التي وضعت لها من خلال أعمال مانيه ومونيه وسيسلي وغيرهم.
> بدأ رينوار، المولود في ليموج العام 1841، حياته الفنية حيث كان في الحادية والعشرين من عمره، حيث انضم الى محترف الرسام شارل غراير، ليجد نفسه في صحبة رسامين شابين آخرين كانا قد أصابا بعض الشهرة عبر لوحات لفتت انظار الباريسيين، والرسامان هما كلود مونيه وكاميل بيسارو. وكان هذان من اقنع رينوار بأن الرسم الحقيقي هو الرسم في الخارج في الطبيعة وليس داخل الأبواب المغلقة. ومن هنا كانت بداية رحلته الانطباعية. بيد انه، على رغم مشاركته في معارض الانطباعيين المتمردة على الفن الرسمي السائد، ظل رينوار يرسل أعماله الى الصالون الرسمي، حيث كان أول نجاح حققه هناك، بفضل لوحته «السيدة شاربانتييه وبناتها» (1879) وهي اللوحة التي وطدت مكانته كرسام «بورتريه» من طراز أول، وإن كانت ملونته ذات سمات انطباعية واضحة. والحال أن مساهمة رينوار الأساسية في الحركة الانطباعية كانت في ألوانه. ولكن كذلك في «البورتريهات» وفي التكوينات التي بدت، لوهلة أولى، متعارضة تماماً مع المشاهد الطبيعية التي كان يرسمها زملاؤه في التيار الإنطباعي لا سيما إدوار مونيه والفريد سيسلي. مهما يكن فإن اللوحات التي رسمها رينوار خلال السبعينات والثمانينات من القرن التاسع عشر، اعتُبرت نوعاً من التصوير الشعبي المتقن لأعياد وإجازات الطبقة المتوسطة الفرنسية أيام الجمهورية الثالثة. غير انه ما إن حلت أواسط سنوات الثمانين حتى بدأ يدرك أن عليه أن يطور ملونته، وإلا لوقعت أعماله في روتينية كان يبغضها. وهكذا سافر الى ايطاليا، موطن إلهام معظم الفنانين الأوروبيين حيث قام بجولة على فنون عصر النهضة، وكان أكبر اكتشاف يحققه هناك لوحات رافائيل الجدارية التي فتنته بألوانها وتكويناتها، ويبدو لنا واضحاً اليوم مقدار تأثره بها خلال اللوحات التي راح يرسمها ما إن عاد الى فرنسا بعد ذلك، غير ان اهتمامه برافائيل لم يمنعه من ان يهتم أيضاً بكبار المعلمين الفرنسيين الذين اشتغلوا في حقبة النيوكلاسيكية، في القرن الثامن عشر، بحيث أن لوحاته لتلك المرحلة تعكس بوضوح إعجابه وتأثره بيوجين ديلاكروا، كما بفرانسوا بوشيه، وكان من شأن هذا ان يبعده كلياً عن الانطباعيين، لكنه لم يفعل، وببساطة لأن رينوار عرف كيف يكيّف تأثراته الجديدة تلك بولعه بالأساليب الانطباعية، وعلى الأقل كما كانت قد تطورت وتبدلت على يديه.
> مهما يكن فإن رينوار عرف دائماً بأنه يلوّن بالغريزة، لا انطلاقاً من نظرية تلوينية محددة، ومن هنا، مثلاً، حين اكتشف لوحات روبنز وعمق استخدام هذا الأخير للون الأحمر أضحى ارتباطه بهذا اللون نوعاً من الهاجس سيطر على لوحات سنواته الأخيرة. اليوم يعتبر بيار – أوغست رينوار، الذي رحل عن عالمنا في العام 1919، واحداً من كبار كلاسيكيي فن الرسم الفرنسي، ولوحاته تقدّر بملايين الدولارات في المزادات العالمية.
نقلا عن الحياة