روح التشابه في العراق: عاطفة مشتتة ووعي ممزّق

روح التشابه في العراق: عاطفة مشتتة ووعي ممزّق

روح التشابه تسيطر على المجتمع العراقي. ويبدو أن أحد أسباب هذه الظاهرة هو الثقافة العشائرية. ففي العشيرة: الجميع يشبه الجميع. فيكون التشابه ثقة وأمان بين أبناء الجماعة الواحدة والبيئة المغلقة والهوية المسوّرة، بينما الاختلاف يُعدّ تهديداً وعدواناً ومصدر قلق وارتياب.

وفي سياق هذه النزعة، يميل الفرد العراقي إلى بناء انحيازاته السياسية محلياً وخارجياً وفق منطق التشابه؛ فيدعم ويؤيد القوى والأنظمة السياسية التي تُماثله وتتمثّل هواجسه ومخاوفه هوياتياً وعقائدياً، في العراق وفي المحيط الإقليمي؛ فيتفاعل مع التاريخ والجغرافيا مستلهماً “روح التشابه”، وبحسب هذا المنطق: كلّ من يُماثلني هو بالضرورة يُمثّلني!

وفي سياق هذه الظاهرة السياسية – الثقافية، يُعاق التطوّر السياسي – الاجتماعي للمجتمع ويتعثر التبلور الديمقراطي للدولة، ويُعاد إنتاج البنى الثقافية التقليدية، التي تغذي “ثقافة التشابه” وتتغذى عليها، في صورة هياكل سياسية أحادية النزعة ومتوجسة من التعددية والاختلاف وفاقدة للمرونة والحيوية، وعاجزة عن أن تكون إطاراً للتنوّع والمواطَنة والمساواة، أو أرضية للتنمية والتشاركية وسيادة القانون.

في إطار هذا المشهد، يُبلور الفرد العراقي مواقفه من التحوّلات والصراعات التي تحصل في داخل العراق أو في المنطقة ناهلاً من زخم العاطفة العقائدية والهوياتية وروح التشابه والتجانس والتماثل، الديني أو المذهبي أو القومي أو الثقافي، وليس عبر استدعاء الوعي الوطني العقلاني والعَمَلاني الذي يفهم السياسة بوصفها مشروعاً فكرياً وأخلاقياً متحرّراً من قيود الهوية وعقلية التشابه. كما أن السياسة، من منظور براغماتي/مصلحي، هي أقرب إلى أن تكون “تقارُباً وتجسيراً وتفاهُماً بين المختلفين” أكثر من كونها “تحالفاً وتعاضداً وتكافلاً بين المتشابهين”.

فرضية “روح التشابه” التي يطرحها هذه المقال يمكن النظر إليها كآلية دفاعية جماعية نشأت في بيئة غير مستقرة، مرتابة ومتوجسة من الغرباء والأغيار والمختلفين، حيث يلجأ الفرد إلى مَن يشبهه بوصفه مصدراً للانتماء والأمان. في الثقافة العشائرية، التشابه ليس مجرد مظهر رمزي يتجلّى في اللهجة أو اللقب أو الدفء الثقافي؛ بل هو ضمان للثقة والتكافل والتماهي، الأمر الذي يجعل الاختلاف يبدو تهديداً وإعلان حرب!

حين تنتقل هذه الروح إلى المجال الوطني والسياسي، تتخذ شكلاً أكثر تعقيداً وأحياناً أكثر خطورة: فبدلاً من بناء الدولة على التنوّع والمواطَنة والحقوق، يُعاد إنتاج منطق القبيلة المتجانسة والجماعة المغلقة والبيئة المعزولة وتتم بلورة “عشيرة كبرى” عابرة للحدود الوطنية لتحتضن المتشابهين وفق المذهب أو الطائفة أو القومية أو الهوية الثقافية. ويُعاد تعريف الانتماء والولاء من منظور: مَن يُشبهني هو أحقّ بدعمي وولائي السياسي.

تتجلّى هذه الظاهرة في اصطفافات عاطفية عابرة للحدود السيادية وولاءات أممية محلّقة مع سرديات خلاصيّة كبرى. فالفرد العراقي المنتمي لهوية مذهبية معينة يعبّر عن نفسه محلياً من خلال الانحياز إلى النظام أو النموذج الإقليمي “المشابه” الذي “يُماثل ويُمثّل ويَتمثّل” هذه الهوية ومقولاتها وسردياتها، أو عبر التماهي العاطفي مع فئات “مشابهة” تحمل الهوية نفسها وتتعرض للظلم في دول أخرى. هنا يتم اعتبار المظلومية التي تطال أبناء “المذهب” في الخارج امتداداً للمظلومية المحلية التي طالت أو تطال أبناء “المكوّن” في الداخل، وبالضرورة فإن “انتصار المذهب” في “معارك المصير” إقليمياً يُنظر إليه بوصفه “انتصاراً للمكوّن” في “صراع الهويات” محلياً!

يبدو هذا المنطق واضحاً في السلوك الفكري والسياسي لذلك النخبوي العراقي الذي يجد “ذاته الثقافية” في النموذج السياسي والأيديولوجي الذي تقدّمه تركيا أردوغان أو تجارب عربية معينة، أو في تبنّيه للقضية الفلسطينية من زاوية دينية أو قومية، أو في تماهيه وتعاطفه مع “الثورة السورية” ومخرجاتها “المُلهِمة سياسياً” والواقع “الخَلاصي” الجديد الذي أفرزته في دمشق أواخر 2024 وما ترتب عليه من تحوّل في علاقات القوة سورياً وإقليمياً.

وفي المقابل، وعلى النسق نفسه، نجد نخبوياً عراقياً آخر يرى “امتداده العقائدي” في النموذج الإيراني وشعاراته “الثورية” ومشروعه الإقليمي “الخَلاصي” وسردية “المقاومة والممانعة” التي يُبشّر بها، أو يستغرق في التوجّس من التغيير في سوريا والخشية من تمدّده إلى العراق، أو في القلق على جنوب لبنان أو على مصير العلويين بعد سقوط نظام الأسد.  

إننا هنا، في الحالتين، إزاء عاطفة مشتتة ووعي ممزّق وبوصلة سياسية مضطربة. إنها حالة من الحيرة والارتباك والتخبّط. ويبدو الأمر كما لو كان أزمة وجدانية ووجودية يعاني منها المجتمع العراقي ككل.

فهل نحن أمام فوضى شعورية ومعرفية يعيشها الإنسان العراقي كانعكاس للفوضى السياسية والمؤسسية والسيادية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تحيط به؟!

هذه الانحيازات أو “الولاءات” المتطلعة للخارج لا تنبع فقط من تشابه ديني أو تطابق مذهبي أو تجانس قومي أو انسجام ثقافي، بل من شعور متجذر بأن الاختلاف يعادل الخيانة أو التهديد أو الخطر الوجودي.

تغرق المجتمعات المحلية العراقية في الانغلاق والتشابه والأحادية، وفي مثل هذا المناخ يتحوّل “المختلف” إلى “خطر” يهدّد “النقاء” و”الأصالة”.

ولذلك، يُدعم الحزب أو الزعيم السياسي أو النظام “المشابه” ويتم التغاضي عن أخطائه وخطاياه، بينما يُشكّ في نوايا “المختلف” ويُطعن فيه حتى لو كان شريكاً في الوطن.

في المجتمع العراقي، لا يزال منطق التشابه يسبق منطق المواطَنة. فنحن نتجمّع في تكتلات وتيارات على أساس التشابه والتطابق في “الانتماء” و”الهوية” وليس على أساس التقارب والتكامل في “الموقف” و”الرؤية”. ولذلك يصعب علينا بلورة “هوية مُواطنية” مشتركة، لأنها تتطلّب موقفاً ورؤية عابرَين للانتماءات المتشابهة: الدينية والقومية والمذهبية والثقافية والمناطقية والفئوية والطبقية.

بناء المشترك الفكري والأخلاقي مع الآخر المختلف يتطلب بذل جهدٍ لاستيعاب ذلك الآخر الذي “لا يشبهنا” ومحاولة فهم آلامه وآماله؛ وليس الاستغراق في الذات وهواجسها ومخاوفها والانحياز لكل مَن “يشبهها” دينياً أو قومياً أو ثقافياً. روح التشابه تمنعنا حتى من رؤية الآخر وليس فقط من فهمه. وبعبارة أدق: إنها تجعلنا لا نراه إلا كخصم وعدو وخطر محدق بنا وبالذين يشبهوننا.

ما زالت روح التشابه هي التي تحرّكنا: مَن ينتمي إليّ يُشبهني، ومَن يُشبهني فأنا أميل إلى الثقة به وموالاته ودعمه، حتى لو كان على الضفة الأخرى من الجغرافيا أو التاريخ أو الواقع. أما المختلف، فمكانه الطبيعي هو موضع الشكّ أو الاتهام، حتى لو كنا نتقاسم الأرض والخبز والمستقبل.

أحدث المقالات

أحدث المقالات