الشهيد النقيب الطيار عبد المنعم شنّون.. شهقة الحلة التي اختنقت في سماء بغداد

الشهيد النقيب الطيار عبد المنعم شنّون.. شهقة الحلة التي اختنقت في سماء بغداد

وُلد عبد المنعم شنّون عام 1935 في مدينة الحلة، من رحم عائلة كادحة نبضت بالكدّ والشرف، وترعرع في أزقتها الطيبة كما تنمو السنابل في السهول الخصيبة. كان شاباً هادئًا، ودودًا، وفيًّا، تغمره المودّة وتسبقه الابتسامة، محبوبًا بين أصدقائه وزملائه، متميزًا في دراسته بالفرع الأدبي حتى تفتحت أمامه أبواب الطيران، فدخلها شابًا متقدًا بالحلم، وخرج منها طيارًا يحلق بالعراق في قلبه، ويضع سماءه على كتفيه.

منذ صباه، انضم إلى صفوف الحركة الطلابية التقدمية في العهد الملكي، وشارك في مظاهراتها ونشاطاتها، مدفوعًا بروح وطنية مبكرة لا تعرف المساومة. وفي عام 1956، التقى برفيق جندي في سلاح الجو، فتح له باب الحزب، فدخله عبد المنعم لا طامعًا بمكانة، بل مخلصًا لفكرة، ووفيًّا لقضية، وظل يعمل في صفوف الحزب بصمت النهر وعمق الإيمان، تحت إشراف هذا الجندي الذي اعتبره منعم معلمًا وأخًا وقائدًا.

ابتُعث إلى بريطانيا لتطوير كفاءته في الطيران الحربي، وهناك، في سماء أوروبا الباردة، ظل قلبه دافئًا بعراقه، راسخًا في انتمائه. وكان معه الطيار منذر توفيق الونداوي، أحد وجوه انقلاب 8 شباط 1963، كما رافقه أو تلاه الطيار خالد شفيق الزبيدي، الذي ذاق بدوره مرارة السجن والإقصاء بعد ذلك الانقلاب الذي أغرق العراق في الدم والسواد.

بعد انقلاب شباط، اعتُقل عبد المنعم في التاسع من الشهر ذاته، وسُجن في السجن العسكري رقم 1 وقصر النهاية، حيث نُكّل به بأبشع وسائل التعذيب. لكن روحه الشامخة لم تنكسر، وبقي متماسكًا، وديعًا، نبيلاً حتى في الألم. لم يُحاكم، ولم يُكلَّف له محامٍ، ولم تُسمع حجته. لقد كان اسمه مجرد رقم في قائمة طويلة من الضباط الأحرار، الذين استُدرجوا إلى الموت بصمت رهيب.

وفي السادس والعشرين من أيار 1963، أخذوه، مع رفاقه، في سيارة عسكرية إلى بقعة نائية قرب عكركوف، وهناك رُميت أجسادهم بالرصاص، ودُفنت، بلا شاهد، بلا علامة، بلا وداع. وكان في الركب الشجاع المقدم فاضل البياتي، والرئيس الأول جلال أحمد فهمي، والنقيب عباس الدجيلي، والرئيس هشام إسماعيل صفوت، والنقيب حسون الزهيري، وسواهم من الضباط الأحرار والشباب المدنيين كصبيح سباهي وصاحب أحمد المرزا، طالب الطب، الذين توحدوا في الشهادة.

لم يُعرف بالضبط لماذا أُعدم عبد المنعم شنّون. ما الذي أخافهم فيه؟ أكان حلمه أكبر من رؤيتهم؟ أم كانت سماحته سلاحًا أمضى من بنادقهم؟ حتى الذين اختلفوا معه سياسيًا من زملائه في سلاح الجو، أجمعوا على نُبله ودماثته وشجاعته. لقد كان من ألمع الطيارين وأكثرهم تهذيبًا وشهامة.

رحل عبد المنعم بصمت الطلقة في الظلام، دون أن يترك القتلة لأمه الثكلى أو زوجته المكلومة شاهدًا على قبره، كما لم يتركوا لأهل الحلة سوى حسرة تمتدّ مع الأجيال. وقد سبقه إلى هذا المصير القاسي الشهيدان إبراهيم كاظم الموسوي وستّار مهدي المعروف، ولحقه من بعد رفاق قضوا تحت التعذيب أو في حفر الموت الجماعي التي لا يعرف لها مكان.

إن عبد المنعم شنّون، ابن الحلة النبيل، لم يكن مجرد طيار أو ضابط، بل كان شجرة عراقية باسقة قُطعت من جذورها، لكنها ظلّت حيّة في ذاكرة الوطن، ترفرف في سمائه كلما مرّت طائرة، أو هبّت نسمة حرية من جنوب العراق إلى شماله.

أحدث المقالات

أحدث المقالات