خاص: بقلم- د. مالك خوري:
حين استقرّيتُ في القاهرة قبل خمسة عشر عامًا، اكتشفت أن كثيرًا من أبناء الجيل الجديد من المصريين لا يعرفون فيروز إلا من خلال الموسيقى التي قدّمها لها ابنها زياد. المفارقة أن هذه الموسيقى نفسها، كانت تُقابل في أوساط لبنانية وعربية كثيرة – خصوصًا بين من عايشتهم في بيروت والمهجر الكندي – بمحاولات واضحة للفصل بين “فيروز القديمة” و”فيروز زياد”.
لكن فيروز زياد، تلك التي بدأت رحلتها معه في أواخر السبعينيات، كانت الصوت الأقرب إلى وجدان طلابي وأصدقائي في الجامعات المصرية، حيث كان ما أحب أن أطلق عليه لقب “الموجة الفيروزية الجديدة” – المُحمّلة بالنَفَس السياسي والاجتماعي العميق، والممهورة بأسلوب موسيقي تجريبي جمع الكلاسيكي بالجاز، والفانك بالشرقي، والوجدان بالاحتجاج – هي أكثر ما يُردده هؤلاء لدى استعادتهم لفيروز..
كثيرون منهم عرفوا فيروز من خلال “قطع زيادية” لا تُشبه ما قبلها:
أغاني حبٍ لا تفيض رومانسية بقدر ما تعبّر عن علاقات مضطربة، تتقاطع فيها مشاعر الشوق بالخذلان، كما في كيفك إنت، أنا عندي حنين، عودك رنان، عندي ثقة فيك، قال قايل، سلملي عليه ومعرفتي فيك.
وأغانٍ سياسية لم تلجأ إلى الشعارات، بل قدّمت موقفًا ضمنيًا، ساخرًا، وملتصقًا بالهمّ الجمعي للمهمشين والمنسيين من أبناء لبنان، أولئك الذين لا تجمعهم الطائفة بل توحدهم الخيبة.
ريبرتوار زياد الموسيقي ليس مجرد مجموعة من الأغاني، بل هو موسوعة احتجاج.
من سألوني الناس، باكورته الفيروزية التي لحنها في غياب والده، إلى اقتباساته اللافتة من كلاسيكيات غربية (لبيروت) أو مصرية (أهو ده اللي صار)، رسم زياد صوتًا جديدًا لفيروز ولنا معها.
فبينما ساهم والداه – عاصي ومنصور – في بناء العصر الذهبي للمسرح الرحباني القائم على الحنين والمثالية الريفية، خرج زياد من رحم المدينة، يحمل سخرية مدينية لاذعة، ونقدًا سياسيًا جريئًا، وموسيقى متأثرة بالجاز والفوضى، عاكسةً كل ما تمزّق في الوطن… وما زال.
زياد لم يكن فقط فنانًا يساريًّا، بل كان أحد أكثر الأصوات الشيوعية النقدية سخرية وشجاعة في العالم العربي.
أعماله لم تُهادن سلطة، ولم تُزَيِّن طائفية، بل كانت مرآةً مكسورة للواقع.
في أغانيه الثورية – أنا مش كافر، جايي مع الشعب المسكين، يا رياح الشعب، رفيقي، بما إنو مش كل يوم، شو عملتلي بالبلد؟، طلعت ريحتكن – كان يلتقي الخطاب بالفن، والوجدان بالتحريض، ضمن أسلوبٍ عضويّ، جماهيريّ، لا يحتاج إلى وسطاء.
وفي المسرح، كانت مسَّاهماته ثورة جمالية وفكرية أعادت تعريف هذا الفن للبنانيين:
من نزل السرور (1974)، إلى بالنسبة لبكرا شو؟ (1978)،
ومن فيلم أميركي طويل (1980)، إلى شي فاشل (1983)،
ومن بخصوص الكرامة والشعب العنيد (1993)، إلى لولا فسحة الأمل (1994)…
تحوّلت نصوصه وحواراته إلى جزء من الفولكلور الشعبي اللبناني، يتناقلها الناس كما يتناقلون الأمثال، لأنها قالت ما لم يستطع غيره قوله، وسخرت من ما لم يجرؤ غيره على السخرية منه.
قال الرئيس اللبناني في نعيه: “زياد لم يكن مجرد فنان، بل ظاهرة فكرية وثقافية متكاملة… ضميرًا حيًا، وصوتًا ثائرًا في وجه الظلم، ومرآة صادقة تعكس معاناة المهمّشين والمظلومين.”
وهذا القول ليس مجاملة رسمية، بل وصف دقيق لرجل لم يتردّد يومًا في الوقوف خارج الصفوف المنظمة، ولا في العزف خارج الألحان المقرّرة.
عروضه الحيّة كانت أسطورية، سواء وهو يعزف البيانو في نوادٍ ليلية دخانية في الحمرا، أو وهو يقود فرقته في عروض ضخمة الإنتاج، تتنقّل بين العبث، والوجع، والكوميديا السوداء، وتُعيّد اختراع المسافة بين الفن والجمهور.
وعزاؤنا اليوم، أن زياد ترك لنا “زوادة”… زادًا من المعنى، ومن الموسيقى، ومن الضحك الحزين، نعود إليه في كل خيبة، وكل نشوة، وكل لحظة نُريد فيها أن نُصغي لأنفسنا كما يجب.
هي زوادة نستطيع أن نغرف منها وجعنا وفرحنا، مآسينا وأحلامنا، وكل ما نكرهه ونحبه في وطنٍ أعيانا وأحببناه.
قلبي اليوم معك يا فيروز، ومع كل من كان زياد جزءًا من تكوينه… وذاكرته… ووعيه.
“يا ضيعانو”!!.