قضية خور عبد الله لم تعد مسألة تقنية في ترسيم حدود أو تنظيم ملاحة بل تحولت إلى مسألة سيادية تمس العمق الجغرافي والتاريخي والسياسي للعراق وتمس وعي الأجيال القادمة وهويتها الوطنية فالخور ليس مجرد ممر مائي بل هو الشريان الذي يربط العراق بالعالم البحري وهو الامتداد الطبيعي لمدينة البصرة ولميناء الفاو الكبير وهو من حيث الجغرافيا والواقع والنضال التاريخي عراقي صرف حينما اندلعت الحرب بين العراق وإيران في ثمانينات القرن الماضي كان خور عبد الله في قلب المعركة البحرية كانت إيران تحاول خنق العراق من البحر وكانت تستهدف الممر والموانئ العراقية في أم قصر والفاو والزبير ولم تكن هناك قوات كويتية على خطوط الدفاع لم ترسل الكويت جنديا واحدا للدفاع عن الخور ولم تعلن أن ما يتعرض له هو مساس بسيادتها بل اكتفت بمراقبة المشهد من بعيد فيما كانت العراق تحمي الممر بالدم والعتاد والموقف الوطني لكن ما إن سقط العراق في لحظة الانهيار بعد العام الفين وثلاثة حتى تغيرت المعادلة رأينا كيف بدأت الكويت تسعى لترسيخ سيطرتها السياسية والقانونية على الخور بدعم من القرار الأممي ثلاثة وثمانين وثلاثمئة الذي صدر في ظروف استثنائية لا يمكن وصفها بالعادلة العراق كان حينها مكبلا بالعقوبات ومنهكا بالحرب ومفتتا داخليا فاستُثمر هذا الضعف لتثبيت واقع جغرافي لم يكن موجودا من قبل الكويت تقول إن القرار الأممي نهائي وملزم والعراق يعترض قائلا إن ما جرى لم يكن تعبيرا عن إرادة سيادية حرة بل كان نتيجة ضغوط دولية وظروف احتلالية عسكرية وسياسية ثم جاءت اتفاقية خور عبد الله الموقعة عام الفين واثني عشر لتزيد الطين بلة حيث تم تمريرها برلمانيا وسط أجواء سياسية فاسدة وانقسامات داخلية لتمنح الكويت وضعا قانونيا أقرب إلى الهيمنة على الممر مما أثار غضب العراقيين شعبا ونخبا ورأينا كيف أن المحكمة الاتحادية العراقية أبطلت المصادقة على الاتفاقية معتبرة أنها لا تمثل الإرادة الوطنية بل تعكس تهاونا وتفريطا بالحقوق البحرية إن ما يثير الغضب الشعبي في العراق اليوم ليس فقط التنازل عن جزء مهم من السيادة بل الإحساس العميق بأن الكويت تكرر الأخطاء الاستراتيجية ذاتها وأنها تتعامل مع لحظة الضعف العراقي بوصفها فرصة لتحقيق مكاسب بعيدة المدى إن العقلية التي تتعامل مع الجغرافيا بميزان الربح والخسارة دون اعتبار للتاريخ والدماء والكرامة تفتح الأبواب أمام مستقبل مظلم إن مستقبل الأجيال العراقية مهدد إذا ما استمر هذا التوجه في التعامل مع خور عبد الله كملكية كويتية منفردة فالموضوع لم يعد تقنيا بل وجوديا وسياديا وإنه لمن المؤلم أن يصبح الشريان البحري الوحيد للعراق رهينة لمزاج جار قرر أن يفرض إرادته تحت غطاء القانون الدولي المجتزأ
وربما اليوم العراق وبسبب فساد الطبقة الحاكمة غارق في الضعف والتفكك والتنازلات لكن من المؤكد أن هذا الحال لن يدوم حتما سيأتي يوم يتولى فيه نخبة وطنية من الجيل الجديد زمام القيادة وسيعيدون النظر بكل ما فُرض على العراق في سنوات الذل والانقسام وسيعود الحق لأصحابه ولو بعد حين وإن لم يحدث ذلك عبر المفاوضات والعدالة الدولية فقد تعود حمامات الدم من جديد لأن الجغرافيا لا تُمحى بالقرارات ولا تُنسى بالإملاءات
ولهذا فإننا نقولها بوضوح إن على الحكومة الكويتية أن تتبنى مشروعا حقيقيا لتهدئة التوترات مع العراق وأن تبتعد عن الخطابات المتصلبة وأن تعي أن هذا الخور لن يُترك في طي النسيان وأن الشعب العراقي في وعيه الجمعي يرفض فكرة أن خور عبد الله كويتي ويراه عراقيا صرفا بل أكثر من ذلك يراه جزءا من كرامته الوطنية التي أُهينت مرارا على طاولات السياسة والابتزاز الدولي الزمن لن يرحم من يزرع بذور الصراع في الجغرافيا والذاكرة وإذا لم تتحرك الحكومات بعقلانية لتفكيك الألغام السياسية الآن فستتفجر في وجه الجميع لاحقا والتاريخ لا ينسى من باع الأرض ولا من سكت عن بيعها كما لا ينسى من دفع ثمن الدفاع عنها بالدم
كتب ببغداد
٢٤ تموز ٢٠٢٥