27 يوليو، 2025 10:41 ص

بين اليوم والبارحة.. وقعت في حينا واقعة.. ليس لوقعتها كاذبة.. سقطت الملائكة والآلهة.. بين اليوم والبارحة.. أقلعت الطائرة نحو الوجهة الخاطئة.. اختراق واغتراب.. اشتياق واختناق.. استياء وازدراء.. روى عنه أبو العتاهية.. كم من وقت هدرنا.. كم من فرصة ضيعنا.. كم من أموال طائلة هربنا.. على أمور تافهة صرفنا.. اخترق الفقر جيوبنا.. سكن الخوف قلوبنا.. واحتل الجبن بيوتنا.. أفاعي تحمل الفوانيس في يدها.. تنير الطريق هناك من يصدقها.. في بيتنا أشباه “كوادر”.. تتحكم في قلب المصائر.. في النهار تدعي أنها تقاوم.. في الظلام علينا تساوم.. تعلن انتصارها فوق المنابر.. يد تسكت الحناجر.. وأخرى تشحذ الخناجر.. لصوص في الليل علينا كواسر.. وفي النهار تقصد الله في المعابد.. هي مسرحية فصحت عنها السرائر.. الخيرون فيها قلائل.. والشر أصله ذو سوابق.. سوف تحكي عنها مدن الدنيا والعواصم.. وتعصف بأوراقنا كل العواصف.. شرنا.. صمتنا.. جبننا.. غبننا.. ماركة مسجلة في قلب الدفاتر.. محفوظة في متن الخواطر.. نحن نكره ماضينا.. والحاضر علينا شاهد.. نحن نخشى صناعة الأحداث.. والتاريخ ناظر.. نفضل هدوء البطش.. على ضجيج الأحرار والحرائر.. نحن من اختار حياة الدجى ونهج منحى الأرانب..
لبسنا ثوب المذلة ونحن به غير راضون.. اخترنا الخنوع ونحن عليه مجبرون.. ما جدوى التذكير بنيل المنى والمطالب.. ما دام الأفق أسود جلي واضح.. والبحر أزرق، عمقه غادر.. الحق على الطريق زائغ.. والشيطان على العهد متمسك ثابت.. وجوه متجهمة، قلب جاحد حاقد.. والحسام على الرقاب قاطع.. صحيح أن حب الأوطان علينا واجب.. إلا أن الجرح في القلب غائر.. يومنا كغدنا لونه أسود غامق.. والنجمة الخضراء في بحرها الأحمر.. تصيح تبا يا “فاسد”.. تستنجد بكل مواطن صالح.. في عهدنا، أصبح المجد صيغته “عاقر”.. الحرب نصر.. والنصر حرب.. كلاهما خراب وهزائم.. كلاهما غباء وغرائم.. لا تلحي لا تحاولي “يا نجاة” رجاء.. الحماسة في ذي الحالات لا تجدي نفعا.. لن أجادل.. لن أساوم.. لن أقاوم.. للتغيير لن أبادر.. ولشرفتي العلوية لن أغادر.. علمتني الحياة أن للتفاهة منحى ومغزى.. والعزة لمن اختار المغنى والملهى.. البقاء للأدهى وأنا فيها الأذكى.. أمام المخاطر أصبح عبقريا أعمق.. أغير لون جلدي.. كي لا أعرف.. أصبح أعمى.. لا أرى.. لا أسمع.. حفاظا على ماء وجهي.. أضع أعصابي.. كرامتي.. في أعماق البراد.. أنا أسجل انسحابي من كل المواقف.. من كل المواقع.. سواء طلب مني الأمر، أم لم يطلب.. أذوب كما يذوب السمن على سطح المواقد.. أتلاشى وأضمحل بإشارة واحدة.. تفاديا لإزعاج النسور.. أو تلطيخ ردائهم بدم الجروح.. أنا الجبان الذي يفضل الانسحاب والهروب.. لا أنكر الأمر عليكم.. ولا أبالي بحالات الشرود.. موقعي محفوظ.. موقفي مرغوب.. ما دام الإقدام والإحجام وجهان لعملة واحدة.. خذ منهما ما تشاء.. المقاومة ترعبني.. وتغيير الأحوال يزعجني.. يجعلني أتراجع آلاف الأميال.. أكره صوت الرصاص.. محب أنا للحياة.. لم تعد الأحوال ولا المواقف تخيفني.. كلاهما عندي سيان.. والله لفي بعض العناد دمار.. وكل قتال حرام.. بخيرها وشرها.. خذ نصيبك من الدنيا بلا جدال.. لا تقاوم الأسياد.. فالأقمار لعلوها لا تلام.. للحياة دواليب ودواعي.. لإرادته نحن مسلمون، مسالمون.. لأولي الأمر منا، نحن مطيعون.. بتقلبات الدهر نحن مؤمنون.. ما جدوى العناد، ونحن فيها مسيرون.. قل عني جبانا.. ليست لدي قيمة ولا مقاما.. هذا لن يغير في الأمر شيئا.. البقاء للأذكياء الأقوياء.. أما المتهور فمآله التراب.. من خاف نجا من نوائب الدنيا.. والحكمة هبة من السماء.
من شدة أسفي وغبني.. قصدت مضطرة الثاني.. علي أجد في جعبته ما يشرح صدري.. لم أجده حاضرا.. بل وجدت دفتره الخصوصي.. معلقا على باب المدخل.. كتب في أول صفحاته: “غدا سوف أنهض في الصباح الباكر.. سوف أمتطي صهوة الحصان.. وأقوم بما لم أقم به قبلا.. سوف أحكي حكاياتي.. بقيت معلقة في خاطري.. غدا سوف أكون حاسما في قراراتي.. ثائرا مثل سائر الثوار.. غدا سوف أنفض الغبار عن الديار.. وألمع قلاداتي وأزراري.. سوف أرتدي خوذتي وحذائي.. كي أشن الحرب على أعدائي.. وأعلن عصياني وامتعاضي من الأهل والأقارب.. غدا سوف أنزع غطاء التسويف عني.. أتصدى بالسيف ملائكة الأشرار..”
ليتني لم أقف على عتبة داره.. ولم أتصفح دفتره الخصوصي.. ليتني لم أطلق العنان لفضولي الزائد.. ولم أطلع بما كان في داخله..
بكلمات فظة غليظة راح الثالث يقذفني.. يصيح بأعلى صوته كالمجنون.. كيف لي ألا أهاب الرعاع.. والنجم الساطع فوق ديارنا من شدة البكاء منهار؟.. كيف للظلال ألا أختار.. والشمس حارقة لا عطاء ولا غطاء.. نعم، أنا المولع المجنون، لكن القلب نابض مجروح.. أمتطي صهوة الحصان المكسور.. أقدم الشهادة بالأصبع المبتور.. أصيح والصوت ضعيف مبحوح.. هنا نكد، هناك عسكر.. هناك اغتراب وعلقم.. ما جدوى أن أقدم أو أتقدم.. وإبليس قرر عنا ألا يرحل.. ما جدوى التمجيد.. وزياد نادم على أمة بقيت لم ترحل.. وصلاح الدين على رحيله لم يندم.. دعني ويأسي وشأني.. فالأموات مهما صحت، لصوتك لن تسمع.. من خاف نجا يا صاح.. والهامش أنا لا أهواه.. بين الهجر والنسيان.. حياة لا تطاق.. ما تسمينه فخرا، أسميه تهورا يا نجاة؟.. ألم يكن من الأجدر ألا تخوضي في ذي المسار؟.. وألا تطرحي مثل هذا السؤال؟.. أن تنفذي ما تؤمرين به أو ما يقال؟.. هكذا ضيعت فرصة الانضمام.. وأفسدت عليك نعمة التقدير والاحترام.. زمن لا يقر بالعلم والعلماء.. أخلاق فاسدة نالت شهادة الأوسكار.. مناصب تمنح خلسة في الخفاء.. شواهد تباع وتشترى في الأسواق.. هكذا أضاعوا عنك المنى والمراد.. هكذا جعلوا من بطشهم طوق نجاة..
آه ثم آه يا جبان.. حالك يحدث بداخلي ضجة وإعصار.. حالك يا وطني يدمي له القلب والفؤاد.. آه من جبن الجبناء الأغبياء.. من فينا ينجو من قبضة الأقدار؟.. حديث تشمئز له النفس والوجدان.. لازمة يطلقها علينا الأنذال.. تغنى في المناسبات، قصد “الاستغباء” و”الاستحمار”.. صحيح أن موت الحرائر في العمر مرة.. وموت الجبناء في اليوم مليون مرة.. ما جدوى الرفاهية، والحياة ذميمة.. ما جدوى أن تكون غنيا والبلاد “زريبة”.. الجبن خوف.. والخوف عار.. كلاهما يجعل منك العبد الذليل.. الجبان جبان، حتى وإن وضعت بين يديه أسلحة ونار”..

أحدث المقالات

أحدث المقالات