مع كل موسم امتحانات جامعية في العراق، تتكرر المشاهد ذاتها: مسؤولون جامعيون، وسياسيون أحياناً، يدخلون القاعات أثناء أداء الطلبة لاختباراتهم، يلتقطون الصور، يتبادلون الابتسامات والمجاملات مع المراقبين والطلبة، يأخذون أوراق الأسئلة ويطلعون على مضامينها، وتُنشر “جولاتهم التفقدّية” على صفحات التواصل الاجتماعي.
يبدو هذا السلوك عادياً في السياق الثقافي العراقي الراهن، لكنه يخفي وراءه الكثير من الأسئلة المتعلقة بفهمنا للمؤسساتية، وحدود السلطة الجامعية، وسلامة البيئة الامتحانية.
ويسعى هذا المقال لتفكيك هذه “النزعة الاستعراضية” في فضاء التعليم العالي، والتي تكرّسها ثقافتنا بلا مساءلة، وتمرّ على حساب القيم المهنية والرصانة الجامعية والكرامة المؤسسية.
في لحظة تأمّل عابرة على هامش موسم الامتحانات الجامعية، وجدتني أطرح على نفسي سؤالاً بسيطاً ظاهرياً، لكنّه، بالنسبة لي، يختزل في داخله كل تعقيدات الإدارة والتعليم والسلطة:
هل يملك مسؤول اللجنة الامتحانية في الكلية الحقّ والصلاحية لمنع رئيس الجامعة أو عميد الكلية وضيوفهما من دخول قاعات الامتحان أثناء أداء الطلبة لاختبارهم؟
ربما يبدو السؤال غريباً في بيئة اعتادت أن تُستعرض فيها السلطة في كل لحظة ممكنة حتى أثناء صمت القاعة الامتحانية. ما أطرحه هنا ليس تطرّفاً ولا خيالاً، بل محاولة لمحاكاة فكرة “سيادة القانون” و”احترام الصلاحيات”، وهي من أبرز مؤشرات الإدارة الرشيدة في أي مؤسسة محترمة.
أن يُمنح مسؤولو اللجان الامتحانية في الكليات الصلاحية الحصرية لإدارة الامتحانات يعني أن الأمور تُدار وفقاً لنظام واضح وليس وفق الأهواء أو الرمزية الشكلية للمناصب. حين يدخل عميد الكلية أو رئيس الجامعة أو عضو البرلمان إلى القاعة في وقت الامتحان مصحوباً بالمرافقين والكاميرات، فهم – من حيث لا يشعرون – يتسبّبون في ارتباك الطلبة والمراقبين، وفي كسر الهيبة الضرورية لهذا الظرف الدقيق، وينتهكون حُرمة الزمان والمكان، إلى جانب الخرق الرمزي للقانون والتعليمات وثقافة المسؤولية داخل البيئة الجامعية.
ما نحتاجه هو ثقافة قانونية وإدارية جديدة تصون المؤسسات وترفض الاستعراض وتلتزم بالتعليمات والصلاحيات إلى جانب الالتزام بالتراتبيات الإدارية. هل هذه دعوة مثالية؟ نعم، ولكنها، باعتقادي، مثالية واقعية، مطلوبة، بل يجب السعي إليها لتكريس الانضباط المؤسسي والكفاءة الإدارية، لا التراجع عنها بحجة أنها ليست من “عاداتنا وتقاليدنا” البيروقراطية!
غالباً ما يُختزل مفهوم السيادة في وعينا العام إلى سيادة الدولة على أراضيها أو في علاقاتها الخارجية، لكن السيادة الحقيقية تبدأ من الداخل، من سيادة القانون ذاته، حين يُفهم على أنه الإطار الأعلى الذي ينظّم العلاقات داخل المؤسسات، ويحدّد المسؤوليات الإدارية والاختصاصات الوظيفية بعيداً عن الأمزجة والمجاملات والهياكل الشكلية للسلطة.
فكلّ موظف حكومي، صغيراً كان أو كبيراً، لا يُقاس وزنه بموقعه في الهرم الإداري بل بمدى التزامه بما يفرضه عليه القانون من واجبات وحدود مسؤولية وتوصيف وظيفي.
إن السلطة داخل المؤسسة، وخصوصاً في السياقات الحساسة كإجراء الامتحانات في مؤسسة تعليمية، لا تُوزّع وفق تراتبية طبقية سلطوية، بل تُبنى على تشاركية واضحة يضبطها القانون والتعليمات النافذة. فمسؤولو القاعات الامتحانية، في لحظة أداء الامتحان، هم مصدر القرار داخل القاعات، وأصحاب السلطة القانونية، ليس على الطلبة الممتحنين وحدهم، بل حتى على القيادات الجامعية الأعلى منهم رتبة إدارية ولقباً علمياً.ومن حقهم، بل من واجبهم، أن يمنعوا دخول أي شخص – بما في ذلك عميد الكلية أو رئيس الجامعة – إلى القاعات ما لم يكن مخولاً من اللجنة الامتحانية لأداء دور محدّد ومشروع قانونياً وذي صلة فعلية بسير الامتحان.
فالسلطة التشاركية لا تسأل: “مَن هو الأعلى؟” بل تسأل: “مَن المسؤول عن هذا الفعل؟”. وبهذا وحده تُصان كرامة المؤسسة، وتتحقق الشفافية، ويُترجم احترام القانون من خطاب إنشائي إلى ممارسة فعلية.
إن السيادة الجامعية لا تقتصر على استقلال الجامعة عن التدخلات السياسية والحزبية والعشائرية فحسب، بل تتجلّى بشكل أعمق وأدق في وعيها هي كمؤسسة باستقلاليتها وممارستها للسيادة على فضائها الداخلي، من خلال احترام كل فردٍ فيها لقوانينها وقواعد السلوك فيها، والحفاظ على كرامتها الإدارية والأكاديمية، وضمان مهنية الأداء داخلها في كل تفصيلة من تفاصيل عملها، بدءاً من تنظيم المحاضرات مروراً بإجراء الامتحانات وصولاً إلى منح الشهادة الدراسية.
هذا الشكل من السيادة ليس ترفاً إدارياً، بل هو مظهر من مظاهر السيادة المعرفية، أي ذلك التصوّر الذي يتعامل مع المعرفة لا باعتبارها مجرد محتوى أكاديمي، بل أساساً تقوم عليه الدولة والمجتمع، وقيمة مركزية توجّه السياسات وصناعة القرار وأساليب الإدارة والوعي الجمعي.
فالسيادة المعرفية لا تُبنى بالشعارات ولا بالتفاخر بعدد الجامعات ولا بالتباهي بفخامة الألقاب الجامعية والعناوين الوظيفية والمناصب القيادية؛ بل حين تُدار تلك الجامعات، بوصفها مراكز لإنتاج المعرفة منطقاً وسلوكاً ومحتوى ابتكارياً، بروح مؤسسية حقيقية تُعلي من شأن القوانين، وتضع لكل موظف صلاحياته وحدوده، وتحمي الممارسات الجامعية من الاستغلال السياسي، وتحفظ للفضاء الجامعي استقلاليته، وللقاعات الامتحانية صمتها، وللمعرفة قيمتها وجوهرها.
عندها فقط تصبح الجامعة مؤسسة سيادية بالمعنى الأعمق: ليست سيادية لأنها فوق القانون، بل لأنها تمثّل سيادة القانون بوصفه تجسيداً حضارياً لسيادة المعرفة؛ وليست سيادية لأنها منفصلة أو معزولة، بل لأنها تُنتج الحماية الفعلية للدولة والمجتمع من اللامسؤولية واللاعقلانية واللاتنظيم.
ليس ما نحتاجه اليوم هو مسؤول جامعي يتجوّل في أروقة الكليات محاطاً بابتسامات الترحيب والتودّد من الكوادر الوظيفية وأضواء الكاميرات والخطى المسرعة للمرافقين، بل نحتاج نظاماً يحترم كرامة المؤسسة العلمية وهيبة الصمت الامتحاني، وعقلاً مؤسسياً يؤمن بأن صورة الطالب والطالبة وهما يكتبان أجوبتهما في هدوء، بلا صخب ولا استعراض، أكثر بلاغة من ألف صورة دعائية.
الجامعة ليست مسرحاً للعب أدوار البطولة المطلقة، والامتحان ليس عرضاً سياسياً أو مهرجاناً انتخابياً. وحين تتحول الإدارة إلى مشهد فوتوغرافي، فإن القيم المؤسسية تتعرض للخرق والانتهاك، ولكن بصمت.
لا يدعو هذا المقال إلى التصادم بين اللجان الامتحانية من جهة، وعمداء الكليات أو رؤساء الجامعات من جهة أخرى، كما لا يشجّع أي مسؤول امتحاني على اتخاذ إجراءات قد تضعه في مواجهة مباشرة مع المسؤولين الإداريين، خصوصاً في السياق العراقي الذي قد لا يوفّر دائماً حماية وظيفية كافية للممارسات المؤسسية السليمة. إن الهدف من هذا الطرح هو إثارة نقاش مسؤول حول فهم الأدوار والصلاحيات، واحترام مهنية المؤسسة الجامعية بوصفها جزءاً من مشروع أوسع لتكريس سيادة القانون في مؤسسات الدولة.