حسن عوينة… قصيدة لم تكتمل لأنفاسها الأخيرة

حسن عوينة… قصيدة لم تكتمل لأنفاسها الأخيرة

في مدينة النجف، حيث تتعانق المآذن بالحبر، وتتحاور العمائم مع وهج الفكرة، وُلد حسن محسن عوينة سنة 1931، لا ليكون مجرد رقم في دفتر الولادات، بل ليتحول لاحقًا إلى جمرٍ ثائر، وشاعرٍ شهيد، ومناضلٍ لا يخون ظلّه. وُلد بين حارات الفقر، وفي زمن مضغت فيه الأنظمة آهات الناس، لكنه قرر أن لا يعيش باهتًا، ولا يموت مطمئنًا… بل أن يشتعل.

منذ فجر وعيه، لم يكتفِ حسن بالدروس المدرسية بين جدران مدرسة النجف الابتدائية وثانوية النجف للبنين، بل قرأ العالم كمن يقرأ كتابًا مكتوبًا بالدم والخذلان، فراح يغذّي روحه بما تيسّر من ثقافة، ويدقّ أبواب النضال على مهل، حتى دخلها من أوسع وجعها.

عاش شابًا متواضعًا يعمل في مغسلة أو محل صغير، لكنه كان يخفي خلف ابتسامته خريطة وطن جريح. كتب، وحرّر، وقاد. ترأّس تحرير جريدة صوت الفرات في الحلة، وأغلقت الجريدة سريعًا. كانت الكلمة سلاحه، والمقالة قنبلته، حتى فُصل من نقابة الصحفيين باعتباره “صحفيًا طارئًا”، فحوّل هذا النعت إلى نكتة سوداء، يسخر بها من جورٍ لا يرحم، وسلطة لا تخجل.

كان حسن، كما وصفه رفاقه، ضميرًا حيًا داخل الحزب، لا يخشى التصويب ولا يتردد في النقد، رجلًا لم يكن مسؤولًا أول، لكنه قاد من الخلف كمن يمسك مقود سفينة وسط العاصفة. في النجف، حيث تتخندق الطوائف والانتماءات، مارس دوره بوعي حاسم، رافضًا أن يُسحب الحزب إلى معارك صغيرة. لقد كان الفرامل حين اندفع الآخرون، وكان البوصلة حين ضاع الاتجاه.

أما شعره؟ فلم يكن ترفًا ولا هواية. كان صرخةً مكتوبة، ودمعةً مؤجلة، ولهيبًا على الورق. كتب “أمي والسلام” حين أقنع والدته بتوقيع نداء ضد الحروب. هذه الأم، البسيطة والمُثقفة بالفطرة، قالت له: “هات النداء لأوقع عليه بكل أصابعي”. فكتب قصيدته، لا ليتغزل، بل ليصرخ باسم الأمهات اللواتي لا يلدن أولادًا للحرب.

كتب أيضًا “ابنة الشعب”، وفيها مدّ خيطًا من الحلم باتجاه المساواة، راسمًا فيها ملامح الوطن كما تحلم به فتاة منسية في زقاق الفقر. وفي قصيدته عن وثبة كانون 1948، بدا متمردًا صداميًا، يعلن صوته بوجه الموت.

نضاله لم يكن مؤجلًا، بل قدّمه على كل شيء، حتى على رغبة والده في أن يحيا حياة هادئة. وحين كتب له والده يحذره من المصير، رد عليه قائلًا:“إذا أنا لا أحترق، وأنت لا تحترق، فمن الذي يحترق لينير لنا السبيل؟

وحين قرأ الوالد هذه الكلمات، قال مستسلمًا بإيمان الأب الحزين: “انتهى الأمر، فلندعه وشأنه، وليحفظه الله.”

لكن الله لم يكن وحده من يرقب حسن… كانت هناك أنظمة ترتعد من فكرة، وتخشى قصيدة، وتُعدم شبحًا يمرّ في الظلال.

في بغداد، في مطلع آذار 1963، أعلنوا إعدامه. لم يكن وحيدًا، بل في رفقة سلام عادل ومحمد حسين أبو العيس، كوكبة من مناضلي الحزب الشيوعي العراقي، الذين تحولوا إلى نجوم على جبهة الوطن، بعد أن سحقهم البعث تحت تبرير الثورة المزعومة.

أدانت المنظمات العالمية هذا الإعدام الوحشي، ونعته بيانات شتى من أنحاء الأرض، لكن حسن لم يكن ينتظر نعيًا ولا وسامًا… كان ينتظر وطنًا لا يشنق أبناءه لأنهم أرادوا الخبز والكرامة.

قالوا عنه رفاقه:

– “كان أشجع من أن يخاف، وأنبل من أن يكره.”

– “كان الشاعر الذي يعيش الشعر لا يكتبه، يحترق ليضيء لنا المعنى.”

– “هو الرائي الذي لم ينخدع بزيف النصر، ولم يهادن من أجل الحياة.”

ومات حسن

لكن من قال إن الشهداء يموتون؟

إنهم فقط يخلعون الجسد، ويواصلون الكتابة في ضمير الشعب.            

       

أحدث المقالات

أحدث المقالات