عاشت هذه الأمة، عبر قرون من التحولات السياسية والدينية، أحداثاً كتبتها أيادٍ شتى؛ فمنها المنصف الذي نقل الحقيقة كما هي، ومنها المتحيز الذي سخر قلمه لخدمة السلطان أو الطائفة أو العقيدة. ولم يكن التاريخ يوماً خالصاً، بل ظل ساحة للصراع على الرواية، وسلاحاً في يد المنتصر لتبرير أفعاله وشيطنة خصومه.
هذا الماضي لم يُترك خلفنا، بل لا يزال يملي علينا الحاضر. فالمشكلة الكبرى أن الأمة، بمختلف قومياتها من عرب وكرد وفرس وترك، لم تحسم بعد موقفها من ذاكرتها الجمعية، ولم تراجع بصدق تلك المرحلة التي اختلطت فيها “الفتوحات” بالغزوات، و“الجهاد” بالاحتلال، والشعارات الدينية بالتوسعات الإمبراطورية.
وإننا اليوم، عندما نحاول أن نقرأ التاريخ أو نقف عند شخصياته، نجد أنفسنا أمام معضلة النفاق الثقافي؛ حيث تُنتقى المحاسن ويُطمس القبح، ويتم تبرير الجرائم القديمة بعبارات “اذكروا محاسن موتاكم“، وكأن الحقيقة لم تُخلق لتُقال، بل لتُجمّل. والمفارقة أن هذا النفاق لا يزال قائماً، بل متجذراً، في واقعنا المعاصر، حيث تُعاد صناعة الشخصيات السياسية والدينية بنفس المنطق التبريري.
ما أشبه اليوم بالأمس. فعلى الرغم من تطور وسائل المعرفة وحرية التعبير، إلا أن عقول الكثيرين ما زالت حبيسة نظريات الإقصاء وثنائيات “نحن وهم“، حتى صار الخلاف الفكري يتحول إلى صراع وجود. وهذا ما نراه في بؤر التوتر الديني والمذهبي في المنطقة، وأبرزها ما يحدث في العراق؛ فبدلاً من قبول التعددية باعتبارها إثراءً للمجتمع، أصبحت تهمة يجب التخلص منها.
لقد فشلت الأنظمة الحاكمة في الشرق الأوسط، سواء التي رفعت رايات الدين أو القومية أو حتى الديمقراطية الزائفة، في استيعاب دروس الماضي. القادة الذين لم يعتبروا من حروب الأجداد، كرروا الأخطاء نفسها، بل بشكل أبشع، واستنسخوا الدمار والحقد والغطرسة تحت مسميات جديدة.
إن أخطر ما تواجهه أمتنا اليوم هو غياب الوعي التاريخي النقدي. لا نقصد بذلك التشكيك بكل ما مضى، بل وضعه في سياقه وتحليله دون تعصب أو تبرير. لقد نقل لنا التاريخ شخصيات ومراحل لا يجوز التعامل معها على أنها ملائكة أو شياطين مطلقة، بل يجب أن يُروى الخير والشر فيها على حد سواء، لا سيما وأن القرآن الكريم نفسه لم يُخفِ سوءات من طغى من الأمم السابقة.
ما يحدث اليوم من تشظٍّ مذهبي ومناطقي، هو نتيجة لهذا التراكم المشوَّه من التاريخ المتحيز، الذي زرع في النفوس الأحقاد بدل التسامح، وعمّق الهوّة بين أبناء الوطن الواحد. ففي العراق مثلاً، لم يعد الخلاف بين السنة والشيعة مجرد اختلاف مذهبي، بل تحوّل إلى عداء سياسي مدعوم خارجياً، يحاول كل طرف فيه احتكار الحقيقة وشرعية الحكم.
إن محاولة بعض الأطراف السنية، ومن يدعمهم من دول الإقليم، قلب المعادلة السياسية في العراق منذ عام 2003 وحتى اليوم، لم تكن إلا استمراراً لهذا النهج الإقصائي الذي لا يعترف بالآخر كشريك، بل كمنافس يجب سحقه. والنتيجة: دماء، دمار، وعودة إلى مربع التخوين والتكفير.
كما أن تقبل الآخر، والتعددية السياسية والمذهبية والثقافية، لم تصبح حتى اليوم ثقافة مجتمعية راسخة، بل ما زالت فكرة مرفوضة لدى الكثير من العامة والسياسيين على حد سواء. ويستمر العداء المجتمعي والسياسي دون أفق، في ظل غياب الحوار الحقيقي، وسيطرة الشعارات الزائفة، وتقديس القادة وكأنهم أنبياء أو آلهة.
إننا أمام لحظة فارقة، تتطلب شجاعة فكرية وتحرراً من عبودية التراث المزيف. لا يمكن لأمة أن تنهض وهي تعيش في ظل تاريخ مشوَّه، ولا يمكن أن تتقدم وهي تسير للأمام وعيونها شاخصة إلى الوراء، متعلقة بأوهام المجد الغابر، وغير قادرة على الاعتراف بأخطائها.
إن التاريخ الحقيقي لا يُكتب بمداد المنتصر فقط، بل بأقلام الأحرار، ومن يريد أن ينقل الحقيقة لا يخشى أن يكشف القبح كما يكشف الجمال. فالاعتراف بالخطأ هو أول طريق التصحيح، والتعددية ليست ضعفاً، بل قوة، إذا فُهمت وأُديرت بعقل راشد، لا بشهوة سلطة أو أحقاد دفينة.
وفي نهاية المطاف ، تبقى الحقيقة هي المخرج الوحيد لهذه الأمة المظلومة. فافتحوا نوافذها قبل أن تُغلق كل الأبواب.
بقلم عقيل وساف صحفي وكاتب عراقي.