أتحدّث عن بداية سبعينيات القرن الماضي ، وكنت وقتها طالبا في الإبتدائية ، كانت مدرستنا تبعد حوالي 2كم عن المنزل ، وكنت أخرج وبجيبي عملة معدنية ذات (5 فلوس) ، أي ما تعادل 2 سنت ، لم نكن نحلم بالعملة الورقية إلا في أيام الأعياد ، وكان عليّ أن أنفقها على التنقل بسيارة (الفورد تاونس) وكنا نسميها (الفورتات) إما جيئة أو إيابا ، أو أن أحتفظ بها لأجل الباعة المتجولين المحيطين بسياج المدرسة ، على الأقل لأبتعد عن رتابة طعام المنزل .
إمرأة عجوز عمياء ، أتذكر إنها تردتي (الچرغد) تحت العباءة التي فقدت لونها الأسود بسبب مكابدتها الشمس ، فصارت تميل إلى اللون القرمزي ، كانت تبيع البسكت ، وأي بسكت ، إنها مخلفات معمل (بسكولاتة) الشهير ، من القطع المكسورة التي لا تفيد للتسويق ، مجرد حفنة ملفوفة بورق الجرائد ، بخمسة فلوس .
إحداهن كانت تبيع (النومي حامض) ، وكنا نقوم بوخزها بالعيدان ، ونعصرها ليتدفق الحامض فنلعقه ، وهنالك (الداطلي) ، والسمسمية ، والشلغم ، والعمبة ، وهنالك (الدوندرمة) بعربة ذات سقف مرتفع ، يعبئها البائع في كأس زجاجي مستخدما أداة تشبه (الكَرَتة) !، و(اللّكِستِك Lick Stick) ، وتعني (العصا القابلة للّعق) وهي عبارة عن قطعة من الثلج تخترقها قطعة خشب لغرض حملها ومحلاة بالسكر وبألوان زاهية ، يعلم الله ماهيتها أو منشأها ، بحيث تتلوّن أفواهنا منها لساعات ، لطالما فضحتنا أمام معلمينا أو ذوينا ، إنها نسخة من (الموطا) حاليا مع الفارق الكبير بين المكونات والطعم والنظافة ، وغيرها .
جاسم ، ذلك الشاب الذي يبيع (الشامية) ، وكان يجلس على الأرض مسندا ظهره إلى حائط المدرسة ، كان طيب القلب ووحيد والدته ، كثيرا ما كانت والدته تزوره لتأخذ من رزقه ما يسد رمقهم ، أخبرنا يوما أنه يستعد للإلتحاق بالجيش لتلبية الخدمة الإلزامية بسبب وصوله للسن القانونية ، إلتحق جاسم ، أعادوه جثة هامدة إلى والدته في أول إلتحاق له ، لقد إستشهد في حركات الشمال ! ، علمنا بعدها أن والدته أصيبت بالجنون وهي تتسول في الشوارع !.
(اللبلبي) ، من أكثر الأكلات شعبية ، كان باعته يدفعون (العربانة) التي تحتوي على قدر كبير من اللبلبي ، وتحته مشعل (بريمز) نفطي للحفاظ على حرارته ، سعر (الكاسة) الواحدة 5 فلوس ، وغالبا ما كنا نطالب بماء اللبلبي (كعوازة) بعد الإنتهاء من تناول الكاسة ، ويبدو أن الرجل قد إستعد لذلك جيدا ، فترى ثلاثة أرباع القدر ماء ، ليستقر اللبلبي في قاع القدر ، في أحد الأيام ، وبينما كان يطبخ اللبلبي في منزله ، إستعدادا لبيعه أمام المدرسة ، إندلق القدر على إبنه الرضيع لتسلخ جسمه وحتى فروة رأسه ! ، ليموت بعدها بايام لا يمكن تصور آلامها في المستشفى !.
أعترف أن النظافة آخر إهتماماتهم ، بعد ان سلبهم الفقر كل شيء ، لهذا كان المعلمون يمنعوننا من شراء أي شيء من الباعة المتجولين ، وخصصوا بضعة تلاميذ كجواسيس للوشاية بكل من تسول له نفسه للوقوف أمام إحدى هذه (العرباين) ! ، وكانت العقوبات قاسية ، بضعة (خيزرانات) مؤلمة على الكف ، أو صفعات بقوة تفوق عمرنا بكثير .
في المقابل ، كان معلمونا يأتون المدرسة بأناقة واضحة ، الجميع كان يرتدي بدلة رسمية وربطة عنق ، جميعهم كانوا يمتلكون السيارات ، في الوقت الذي كانت شوارعنا لاتشهد إلا سيارة واحدة كل بضعة دقائق ، لم نكن نعرف ما هو التدريس الخصوصي ، جميع المدارس كانت رسمية وبإدارة الدولة ، وكان المعلم إذا أحس بضعف استيعاب الطلاب في مادة ما ، كان يفتح منزله لنا أيام الجُمَع لغرض تقوية إستيعابنا دون مقابل .
كنا نتوارى عن الأنظار كلما رأينا أحد معلمينا في الحي ، فقد كانوا يحاسبون الطالب في اليوم التالي على اللعب في الشارع أو أي إساءة تصرف ، كانوا حقا مُربّين يستمعون لأي مشكلة ويسعون لحلها حتى لو كانت خاصة ومنها مشكلة التنمّر المتفشي في مدارسنا .
رغم صغر سني وقلة وعيي آنذاك ، إلا إني كنت أتألّم لقصصهم التي لا تُنسى ، هؤلاء قد عاشوا في مجتمع مليء بالظلم والظلام ولا زالت الغالبية تعيشه ، فعن أي زمن جميل يتحدثون رحمكم الله ، لكنه فعلا كان جيلٌ للطيبين .
(لو كان الفقر رجلا ، لقتلتُه) ، أول عبارة مجلجلة تتوعّد الفقر ومسببيه ، قالها الإمام علي (ع) ، المصلح العظيم ، أعدل الناس أقام الحدّ (غيابيا) عليه ، لأنه رأس كل آفة ، وكل مأساة وكل منقصة ، وكل رذيلة ، وفعلا (ما جاع فقير ، إلا وبما مُتّعَ به غني) ، صاحبه ومن مدرسته (أبو ذر الغفاري) الثائر العظيم يقول (لو دخل الفقر مدينة ، قال له الكُفر خُذني معك) .