في مساءٍ مأساوي من يوم الاربعاء الموافق 16/تموز/2025، التهمت نيران غير رحيمة مبنى تجاري مكون من خمسة طوابق وسط مدينة الكوت، وخلّفت وراءها فاجعة وطنية بكل المقاييس. أكثر من واحد وستين ضحية، بينهم أربعة عشر جثة متفحمة لم تُعرف هوياتها بعد، وآخرون قضوا اختناقاً بدخان أسود كثيف كان أسرع من أي استغاثة أو إنقاذ. ليست النيران وحدها من قتلتهم، بل البيروقراطية، والفساد، وانعدام أبسط معايير السلامة.
المبنى الذي تحول إلى محرقة بشرية كان يفتقر إلى أدنى متطلبات الإخلاء الآمن، دون سلالم طوارئ، أو حتى نظام إنذار فعال. سؤال يتردد على كل لسان: من المسؤول؟ ومن سيحاسب؟
الجريمة… ليست قضاءً وقدراً
في نظر القانون، لا يُعد الإهمال خطأً بسيطاً حين يكون ثمنه أرواح العشرات. والقول إن ما حدث مجرد “قضاء وقدر” هو مجافٍ للعدالة، فالدولة تقف على أكتاف قانون لا على تفسيرات جزافية. السيد قاضي التحقيق المختص باشَر باتخاذ الإجراءات القانونية بحق عدد من المتهمين، إلا أن تحديد التكييف القانوني الدقيق للجريمة هو الفيصل في إنصاف الضحايا، وتحقيق الردع العام.
المادة 411 أم المادة 434؟ حين تنطق الوقائع
ربما يذهب بعض المختصين بالقانون إلى اعتماد المادة (411) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 بوصفها الأقرب للحالة، وهي الخاصة بـ”القتل الخطأ”، لكون الجريمة لم تُرتكب بقصد جنائي (جريمة غير عمدية). إلا أن القراءة المتأنية تشير إلى أن المادة (434)، لاسيما فقرتها الثالثة، هي الأجدر بالتطبيق؛ فهي تتناول جريمة التسبب بخطأ في اندلاع حريق أدى إلى وفاة إنسان، مع عقوبة تصل إلى السجن عشر سنوات.
وهذا التكييف القانوني ليس استنباطاً نظرياً، بل يستند إلى اجتهاد قضائي راسخ، أكّدته محكمة التمييز الاتحادية الموقرة في قرارها الصادر بالعدد 2847/2849/الهيئة الجزائية/2025، والمتعلق بحريق قاعة الهيثم في الحمدانية/نينوى، وهو حادث مشابه من حيث الوقائع والنتائج.
العدالة في رماد الأرواح
الواقع القانوني يؤكد أن محاسبة المقصرين يجب أن تكون عبر تكييف قانوني دقيق، ومبني على مبادئ واجتهادات قضائية واضحة. لا يكفي أن نسميهم مقصرين، بل يجب أن نقولها بوضوح: هم مذنبون. ومذنبون بخطأ قاتل، لا يقل في تأثيره عن العمد عندما يُهدر عشرات الأرواح في لحظة.
في ظل هذا الحادث، تظهر الحاجة إلى إعادة النظر بجميع منظومات التفتيش والرقابة المدنية في العراق، وتفعيل سلطة الدفاع المدني، وربط التراخيص بمدى الالتزام بأنظمة السلامة لا بمجرد استكمال الأوراق.
ولأن العدالة تبدأ من تشخيص السلوك لا النتيجة فقط، فإن جرائم الإهمال الجسيم التي تفضي إلى مقتل جماعي يجب أن تعامل بأقصى درجات الصرامة القانونية، لا أن تُغلف بلغة “التقصير الإداري”.
هذا المقال جزء من سلسلة قانونية تتناول أبرز القضايا الوطنية بمنظور قانوني تحليلي دقيق، يهدف إلى تعميق الوعي الحقوقي لدى الجمهور العراقي وتثبيت ثقافة المحاسبة القانونية. وقد كُتب من مختصة في مجال القانون وهي ينتمي إلى مهنة آمنت دوماً أن الكلمة العادلة قد تُنقذ أرواحاً في المستقبل.