من الصدف النادرة أن يكون بين يدي كتابان، مؤلفاهما شخصيتان علميتان مرموقتان تعدى جهدهما البحوث العلمية والطبية الى التأليف في الأدب والإعلام والبيئة، أولهما كتاب “موسوعة اللغة العامية البغدادية” لأستاذ الكيمياء التحليلية البروفسور الدكتور مجيد محمد علي القيسي، وثانيهما كتاب ” التلوث الإشعاعي في العراق” الجزء الاول للبروفسور الدكتور كاظم المقدادي…الأول سيكون موضوعي على أمل أن أتوقف مع الثاني حين أفرغ من قراءته قريبا.
****
لم يكن هدفي استعراض الكتاب القيم لأستاذي الدكتور القيسي، فقد كتب عنه عدة أساتذة، إنما رُمت التأكيد على مكانته وجهوده العلمية في الكيمياء وفي التراث وتحديدا موسوعته عن اللغة البغدادية لا سيما منهج التأليف وعلى بعض نواحي هذا السفر الهام الذي يعد مرجعاً كبيراً لكل من أراد أن يلمَّ باللغة البغدادية معجما وأصولاً بما في ذلك قواعد وصرف وتطور المفردة أو اللفظة من جذرها وإرجاعها الى أصلها سواء كان عربيا فصيحا أو دخيلا، وتطور دلالتها ولفظها وفق اللسان البغدادي مع أمثلة كافية مثبتاً باعه الطويل وسعة اطلاعه وحسن معالجته مكرسا خبرته الأكاديمية في مجال الكيمياء التحليلية ومطلعا على منجزات الألسنيات، ولعمري أن الجهد شاق استغرق فيه المؤلف سنين عددا، حين أنجز أول الامر (معجم الألفاظ والمصطلحات الأجنبية في اللغة العامية العراقية) عام 1990 عن دار الشؤون الثقافية/بغداد، ناهيك عن الكثير من البحوث في مجال التراث العراقي عموماً والبغدادي خصوصاً. فكيف استطاع هذا العالم أن يجمع بين بحوث الكيمياء التي نشرها في دوريات عربية وعالمية مرموقة وبين البحث في التراث؟ فما أبعد المسافة وما أشق الطريق!ُ يقتبس صاحب المورد منير بعلبكي قولا للدكتور جونسون أحد رواد النقد الإنجليزي ويجعله في صدر قاموسه ” يروم كل من يؤلف كتابأ مديحا إلا من يصنف معجماً فكفاه سكوت النقاد..” ولا شك ان هذه المقولة تبين حجم المشاق والمصاعب التي تواجه من يصنف معجما فكيف إذا كاك المعجم يتناول العامية البغدادية؟!
كان العام الدراسي هو 66-1967 والقسم هو الكيمياء في كلية التربية العتيدة، وكل شيء في هذه الكلية في حركة ديناميكية لا تعرف السكون، والنشاط الثقافي مفعم بمهرجانات الشعر، والمهرجانات السياسية في نشاط ومن محصلتها اضرابات الكليةبعيد عام النكسة، واليسار في الجامعة يسجل في الانتخابات الطلابية. يسجل رقما مذهلا في كل كليات الجامعة ومعاهدها بما في ذلك كلية الشريعة!..ومع ذلك فالدراسة فيها عالية تتطلب جهداً من الأساتذة والطلاب معا، وكان في قسم الكيمياء هامات ثقيلة أهمها أربع الدكتور فهد علي حسين إمام العضوية، والدكتور جلال محمد صالح أستاذ الفيزياوية، والدكتور مجيد القيسي للتحليلية- الأشعاعية والدكتور نعمان النعيمي للاعضوية (محاضر) ولا ننسى أساتذة أفاضلَ سيتولون التدريس لاحقاً منهم الدكتور نوري سالم، والشاب الانيق الدكتورعادل سعيد وصفي، والدكتورمعين اسكندر الجبوري والأستاذة حسيبة عبد القادر، والمستر بوشي والدكتور عبد الرزاق محمد جعفر وآخرون حاضروا لفترات معينة. وكان رئيس القسم الشخصية العلمية والثقافية شيت نعمان، ومن أبرز المعيدين الأستاذ وديع الأطرقجي والأستاذ حسون والأستاذة سعدية الهاشمي والأستاذة هناء زينل وآخرون حضرت وُجوهُهم في الذاكرة وغابت أسماؤهم للأسف…فسَقيا ورعَيا لذلك الزمن الجميل!
في القاعة الأرضية الكبرى في قسم الكيمياء حيث احتل الطلبة مقاعدهم، وتأهبوا لاستقبال أساتذتهم الذين سبقتهم سمعتهم، والسنه هي الثانية في الكلية – عمليا الاولى من التخصص- دخل أستاذ، طويل القامة ، دون الأربعين،عليه علامات الجد مع طيبة مرتسمة على الوجه، رحب بالطلبة بكلمة أو كلمتين، ثم استدار الى السبورة وكتب المصادر المعتمدة ونوّه بأولها by Hamilton, calculations of analytical chemistry، ثم أضاف: سأقوم باختصار المحاضرات في الجوانب النظرية والتطبيقية في ملازم معتمدا على المصادر الأخرى. كان الدكتور القيسي يجمع بين أسلوب المحاضرة الأعم وأسلوب المناقشة الأخص، مع ملخص سبوري منظم مما يخفف من ثقل المادة وخاصة في موضوعات معقدة مثل المركبات المخلبية، وموضوع حاملات الألوان وغيرها، وقد برع أستاذنا في ترجمة المصطلحات الكيميائية بشكل علمي دقيق، مما سيجعله مستشاراً معتمداً في المجمع العلمي العراقي، وقد لعب دورا مهما جدا في وضع المناهج الدراسية العلمية وتأليف الكتب العلمية لمختلف المراحل الدراسية والى جانب كل هذا واصل بحوثه الكيميائية وأشرف على العديد من الأطاريح في مادة الكيمياء لدرجة الماجستير والدكتوراه، مع نشاط لا يعرف الكَلل في البحث في موضوع التراث.
وأستاذنا القيسي بغدادي قح، ولد في محلة السباع من الرصافة- ومن منا لا يعرف هذه المحلة التي ارتبطت بانتفاضة كانون عام 1948 التي أسقطت معاهدة بورتسموث- والمجاورة لمحلات المهدية والفضل وألبوشبل و الجوبة والعزة وغير بعيدة عن بني سعيد والطاطران، وهي تقع بين شارع غازي(الكفاح) وشارع الشيخ عمر..وتشرب بتراث بغداد وعادات أهلها وثقافتها وتراثها اللغوي والغنائي لاسيما المقام العراقي الذي يعرفه الأستاذ القيسي ويعرف مطربيه فكان المطرب عبد الرحمن العزاوي صديقا له منذ الطفولة والشباب، وشقيقه مرتل القرآن المعروف علاء الدين القيسي، ومن عائلته أيضا عازف القانون وخبير المقام خضير الشبلي، وكذلك ضارب الإيقاع المعروف عبد الرزاق القيسي،، ودرس الأستاذ القيسي في مدارس بغداد العريقة المتوسطة الغربية والإعدادية المركزية ثم يتخرج في كلية الصيدلة والكيمياء ليواصل دراسته في المملكة المتحدة متخصصا في التحليلية- الإشعاعية لينال الدكتوراه من جامعة(كوينز-بلفاست)، وليصبح أستاذاً للكيمياء في كلية طب الموصل..ولم يلبث أن ينال زمالة الطاقة الذرية الى أمريكا ليستزيد من أحدث علوم التحليل الاشعاعي ثم يعين أستاذاً في كلية التربية ثم رئيسا لقسم الكيمياء في كلية العلوم فعميداً لكلية العلوم حتى عام 72 ليرجع الى الأستذة والبحث في الجامعة بناء على رغبته! كل هذا والبروفسور القيسي زاهد في الشهرة بعيد عن الأضواء فالتدريس والبحث والتأليف عنده أهم من المناصب التي سعت اليه فأعرض عنها.
وعودة الى الكتاب الموسوم “موسوعة اللغة العامية البغدادية/أصولها وابنيتها ومعجم ألفاظه” للدكتور مجيد محمد علي القيسي، الصادر في عمان عام 2013 عن دار الأديب في عمان والذي يقع في 219 صفحة، والذي اخرج إخراجا حسناً حيث خُط العنوان الرئيس في الغلاف الخارجي بخط الثلث الجميل والغلاف الداخلي بالخط الفارس مما أكسب الكتاب بعدأ مهيبا يتماشى مع القيمة العلمية، وفي موضوع قالوا في بغداد نقرأ أبياتا من قصيدة شاعرها المؤلفُ نفسُه منها(الكامل):
بغدادُ كم هانت عليكِ محبتي *** أفلا سألتِ الليلَ حين يعودُ
ما زلت أذكرُ خَلوَةً شُقنالها *** عند الجُنينةِ والعيونُ وُرودُ
والعودُ يشدو بالحجازِ وبالصَّبا*** والناي يصدحُ بالنّوى بغدادُ
الى أن يقول:
عهدٌ علي حبيبتي ألا أرى*** دارَ الشلامِ يسوسها النمرودُ
هذا النضد الشعري يذكرنا بالشعر العباسي يذكر شاعرنا فيه أنغام المقام العراقي الذي ولع به.
ينقسم الكتاب الى قسمين رئيسين يتعلق الاول بالبحث القيم نع نشأة اللغة العامية البغدادية وتطورها الى صلب الموضوع المتعلق ينحوها وصرفها و مخارج أصواتها حيث لم يُبقِ شاردة وواردة إلا واشبعها بحثا وتمحيصاً، ويشرح البروفسور القيسي لماذا لماذا أعتبر عامية بغداد لغة وليس لهجة، موضحا أن اللغة اكثر سعة وأغنى مفردات وأشمل في مجال الاصول والقواعد وأكثر تداولاً وشيوعا بين متكلميها وهذا ما تناولة اللغويون السابقون في القول لغة تميم وقيس وطي..الخ مثلما يقال لغة اهل المغرب أو لغة اهل مصر، في حين أن اللهجة تكون اضيق ومرتبطة بمكان أضيق، لهذا نجد البغدادي يميز بين لهجات الكرخ عن الرصافة أو حتى بين حواري بغداد ذاتها!وفي هذا القسم أيضا تتداول المصطلحات اللغوية بدقة لتفرق بين اللكنة والرطانة والعجمة وكذلك بين الإقلاب والإبدال والاستنطاء والعنعنة التميمية/ القيسية ومن الجدير ذكره هو أن اللهجة العراقية وعموم الخليجية تتبع لغة تميم/قيس بشكل أساس. ومن المواضيع الشيقة والمهمة هي ربط اللهجة بشخصية البغدادي ذي الاعتداد الشديد بالنفس وبأناقته والمعروف أن فعل تبغدد المستعمل في مصر يعني تأنق. ورغم الغلظة التي يجنح اليها البغدادي أحيانا ومع ذلك تتردد كلمات على لسانه مثل عيني وأغاتي يستعملهما بنبرة الرجولة بدون التذلل الذي يسود في بعض اللهجات العربية، كما ينفرد البغداديون كباقي العراقيين بالترحيب بمجالسيهم عرفوهم أم لا بتعبير” الله بالخير” كما أن البغدادي بطبعه كريم “خواردة” ويهب للمساعدة فهو صاحب نخوة وشهامة ومهما غضب البغدادي فإن كلمة رقيقة كافية لتهدئته وتطييب خاطرة.
والجزء الثاني هو المعجم، حيث يعطي المعنى أو عدة معان، مع بيان الأصل الفصيح أو الأجنبي، وتطور المفردة بسيطة كانت أم مركبة، فمن أراد أن يعرف قارشوارش، وشقندحي ، وبهريز، وصرم بارة، وتنبل أبو رطبة، والعُكّة التي تُحفَظ بالواوي، وكلمات الهجاء مثل: سيبندي وبشتي وهتلي وقرمبارة وقرج…الخ فليتمتع بهذه الموسوعة التي فيها معرفة أصول لغتنا المحكية البغدادية والعراقية بمعالجة علمية صارمة لا تخلو من عامل التشويق.
وأخير لي ملاحظة عن محلة آل شبل التي ورد ذكرها في الموسوعة في عدة مواضع، وهي أنها لاعلاقة بعشيرة آل شبل الفراتية الكريمة، وإنما لوجود ضريح المتصوف الشاعر ” أبو بكر الشبلي البغدادي” 247-334ه، وكان صديق الحلاج ويذهب مذهبه في التصوف إلا أن الحلاج أجهر، والشبلي كتم وهذا ما يقوله عن نفسه(راجع تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وسير أعلام النبلاء للذهبي، والوفيات لياقوت الحموي وغيرها من مصنفات السِّيَر) ومن شعره الرقيق (الرمل):
يابديعَ الدَّل والغنجِ *** لك سلطانٌ على المُهجِ
إنّ بيتاً أنت ساكنه*** غيرُ محتاج الى السُرُج
وعليلاً أنت عائدُه *** قد اتاهُ اللهُ بالفَرج
وجهُكَ المأمولُ حُجتنا***يوم يأتي الناسُ بالحُجَج
لا اتاحُ اللهُ لي فَرَجا ***يومَ أدعو منكَ بالفَرَج