في لحظة هادئة لكنها ذات دلالات عميقة، وقف رئيس حكومة إقليم كوردستان، مسرور بارزاني، ليفتتح المرحلة الأولى من مشروع الإمداد السريع بالمياه في أربيل. لم يكن الحدث مجرد افتتاح بنية تحتية خدمية، بل جاء في توقيت تتزاحم فيه الأسئلة حول الإيرادات المحلية وصلاحيات الإقليم، ليكون هذا المشروع الجواب العملي الهادئ على كل حملات التشكيك والتقليل.
أربيل، المدينة التي تضخمت عمرانياً وتوسعت سكانيًا في السنوات الأخيرة، عانت من أزمة مياه خانقة تفاقمت بفعل التغير المناخي وانخفاض مناسيب المياه الجوفية. واليوم، يأتي هذا المشروع كخطوة نوعية لا فقط لتلبية حاجة يومية أساسية، بل أيضاً لتثبيت قدرة الإقليم على إدارة شؤونه وتنفيذ مشاريعه الحيوية رغم الضغوط السياسية والمالية.
ما ميّز المشروع، كما أشار بارزاني، ليس فقط الإنجاز بحد ذاته، بل الطريقة التي تم بها: شركة محلية، عمالة وخبرات محلية، وحتى المواد المستخدمة معظمها من الإنتاج المحلي. هذه التفاصيل ليست تقنية بحتة، بل رسالة مبطّنة مفادها أن كوردستان قادرة على الاعتماد على ذاتها حين تُحرم من مواردها أو تُعاقَب جماعيًا عبر تجميد الرواتب أو احتجاز الميزانية.
كلمة مسرور بارزاني خلال حفل الافتتاح لم تكن مجرد تهنئة، بل كانت خطابًا شفافًا وهادئًا، رسم فيه ملامح التحدي الذي يواجهه الإقليم داخليًا وخارجيًا. تحديات تبدأ من قصص الرواتب المعلّقة، ولا تنتهي عند الاستهداف المتكرر لحقول النفط في كوردستان بطائرات مسيّرة مجهولة، وهي رسالة أخرى مفادها: كلما تحركنا نحو خدمة شعبنا، يُراد لنا أن نتوقف.
وفي لحظة صدق لافتة، خاطب بارزاني شعبه بصراحة نادرة، مشيرًا إلى أن الإقليم حُرم من حصته في التعيينات العامة، والضمان الاجتماعي، والمستشفيات، والمدارس، بل وحتى من دخول منتجاته الزراعية إلى السوق العراقية. مشهد تمييز واضح لا يحتاج إلى تفسير، بل إلى وعي سياسي وجماهيري عميق بأن ما يجري ليس سوء تفاهم في الحسابات، بل نهج إقصائي متكرر.
لكن وسط هذا المشهد القاتم، كانت هناك إشارات إلى أمل لا يزال ينبض: التزام حكومة الإقليم بعدم التنازل عن الحقوق، مع الاستعداد الكامل للتعاون من موقع الشريك، لا التابع. وإصرار على المضي في المشاريع، مثل الكهرباء المستمرة لـ24 ساعة، وإعادة تدوير المياه، وتوسيع البنية التحتية، رغم كل العراقيل.
فمنذ تسلمه رئاسة الحكومة عام 2019، أطلق مسرور بارزاني حزمة من المشاريع الخدمية والتنموية الكبرى. أبرزها مشروع “روناكي” الذي يهدف إلى توفير الكهرباء على مدار 24 ساعة لمواطني الإقليم، حيث تم نصب أكثر من 30 محطة تحويلية جديدة وتطوير شبكة التوزيع بالكامل في محافظتي أربيل ودهوك، وبلغت نسبة الإنجاز فيه أكثر من 80% حتى منتصف 2025.
كذلك أنجزت الحكومة نحو 280 مشروعًا استراتيجيًا خلال السنوات الأربع الأخيرة، توزعت بين الصحة والتعليم والطرق والكهرباء والمياه، بإجمالي استثمارات تجاوزت 3.5 تريليون دينار عراقي. ومن بين المشاريع المهمة:
تشييد أكثر من 500 كم من الطرق الجديدة، إضافة إلى 15 جسرًا استراتيجيًا لتسهيل الحركة التجارية والربط بين المدن.
مشروع إعادة تدوير المياه في أربيل ودهوك، والذي ساعد على خفض استهلاك المياه الجوفية بنسبة 30%.
بناء أو إعادة تأهيل أكثر من 250 مدرسة جديدة، وتطوير البنية الرقمية للقطاع التربوي.
لكن هذه السياسة ليست معزولة عن سياق أوسع من الضغوط الممنهجة التي تُمارسها الحكومة الاتحادية على الإقليم، سواء على صعيد التمويل أو السيادة الاقتصادية. فبغداد، تحت ذرائع قانونية وسياسية، عمدت إلى احتجاز رواتب الموظفين لشهور طويلة، وربط صرفها بشروط تعجيزية تتجاوز حتى ما ينص عليه الدستور. كما فرضت قيودًا على صادرات النفط الكوردية عبر ميناء جيهان، ما أدى إلى خسائر بمليارات الدولارات لصالح الحكومة الاتحادية.
وتمضي هذه الضغوط إلى حد إقصاء الإقليم من الاستفادة من مشاريع التمويل المركزي، وتجميد أموال مخصصة له بموجب قانون الموازنة، فضلًا عن استخدام المحكمة الاتحادية كأداة سياسية لفرض الوصاية المركزية وعرقلة أية محاولة من كوردستان لإدارة مواردها بشكل مستقل. إن هذه السياسات، وإن غُلّفت بعبارات السيادة والوحدة، في حقيقتها تشكل خنقًا اقتصاديًا تدريجيًا هدفه فرض التبعية السياسية والتراجع عن المكاسب الدستورية التي نالها الإقليم بعد عام 2005.
ورغم هذا الواقع القاسي، لم تختر حكومة إقليم كوردستان المواجهة أو الخطاب الشعبوي، بل ردّت بلغة الأرقام والمشاريع. ففي السنوات الأخيرة، وتحديدًا في عهد حكومة مسرور بارزاني، شهد الإقليم طفرة عمرانية وخدمية ملحوظة. على سبيل المثال، أُنجز أكثر من 1,250 مشروعًا في القطاعات الخدمية والاستثمارية بكلفة تجاوزت 4.7 تريليون دينار عراقي، منها مشاريع طرق وجسور، ومجمعات سكنية، وشبكات كهرباء ومياه.
أحد أبرز هذه المشاريع هو مشروع “روناكي” للكهرباء، الذي وفّر طاقة نظيفة لحوالي 250 ألف نسمة، وأسهم في تقليل الاعتماد على المولدات بنسبة 35%. كما شملت خطة الحكومة بناء وتحديث أكثر من 400 كيلومتر من الطرق الاستراتيجية، من بينها مشروع طريق شيخان – لالش الذي بلغ 85% من الإنجاز، بطول 8.2 كم وعرض 25.5 متر، وبتكلفة بلغت أكثر من 26 مليار دينار.
في مجال التعليم والصحة، جرى بناء أو تأهيل أكثر من 100 مدرسة ومرفق صحي في مختلف المحافظات، وافتُتحت مراكز علاج السرطان والقلب بتجهيزات حديثة خفّفت الضغط عن المرضى وقلّلت من الحاجة للعلاج خارج الإقليم. كما تمكّن القطاع الخاص من إنشاء مجمعات صناعية جديدة خلقت فرص عمل تجاوزت 15,000 وظيفة خلال عامين فقط.
هذه الأرقام ليست فقط مؤشرات إنجاز، بل أدلة على رؤية تعتمد على التخطيط طويل الأمد، لا على الحلول المؤقتة. إنها مشاريع لم تُنفذ فقط لتسويق سياسي، بل لتغيير فعلي في حياة المواطن الكوردي.
بهدوء وحنكة، أكد بارزاني أن ما يُنجز على الأرض هو أفضل ردّ على التساؤلات المشككة. فحين تُبنى مشاريع من هذا النوع في ظل غياب الدعم الفيدرالي، يصبح السؤال الحقيقي: ماذا لو تم احترام الحقوق الدستورية للإقليم، وجرى التعامل معه كشريك فعلي في الدولة؟
إن مشروع مياه أربيل، في جوهره، ليس مجرد أنبوب يضخ الماء إلى البيوت، بل هو رمز لصمود الإدارة الذاتية، لقدرتها على التكيّف والعمل تحت الضغوط، وعلى جعل “الخدمة” فعل مقاومة، وردًا صامتًا لكن قويًا على أولئك الذين أرادوا للإقليم أن يبقى رهينة الأزمات المفتعلة.
هذه اللحظة، بكل ما فيها من رمزية وإنجاز، تذكّرنا بأن الصراع في العراق ليس صراع نفوذ فحسب، بل هو أيضًا صراع على تعريف “العدالة”. فهل يمكن أن تكون العدالة انتقائية؟ وهل يمكن لشعب أن يُطلب منه التخلي عن إيراداته المحلية ومصادره بينما يُحرم من أبسط حقوقه في التوزيع العادل للثروة الوطنية؟
ختامًا، فإن حديث رئيس الحكومة لم يكن مجرد تبرير، بل كان خريطة طريق: سنستمر في البناء، بالخدمة لا بالشعارات، وبالحق لا بالمنّة. وفي كل مشروع يُنجز، يظهر وجه كوردستان الحقيقي، ويعلو صوتها، حتى وإن خفضت نبرة الحديث.
كوردستان لا تطالب بالعطف، بل بالعدالة. ومشاريع الماء والكهرباء والطرق، ليست سوى أول الغيث… والباقي قادم بالإرادة والعمل.