لايمكن للمرء إلا أن يكون ساخرا وهو يستمع إلى الحكومة السعودية وهي تدين العراق بسبب ما أسمته “سياسة الإقصاء والتهميش التي مورست ضد السنة” والسخرية هذه تأتي لسببين أساسيين، وإن كانت هذه الإدانة محاولة مكشوفة للتدخل في الشأن العراقي ولي عنق العملية السياسية لصالح طائفة عراقية معينة.
أما السبب الأول للسخرية من الإدانة السعودية هذه، فيتعلق بحاضر وماضي الحكومة السعودية في التعامل مع الأقليات داخل المملكة، وإذا اخذنا الشيعة مثالا فيكفي أن نسوق جملة من المصاديق على فضاعة التعامل السعودي مع هذه الطائفة التي تشكل ما نسبته اربعة ملايين نسمة يقطنون في منطقة غنية بالنفط وليس لهم الحق في إدارة مركز شرطة فيها.
الشيعة في السعودية
نعم، فنمط التعاطي السعودي مع مواطنيها، وهو مكشوف وواضح للعيان يؤكد أن الشيعة في السعودية ليس من حقهم شغل مناصب مهمة في الدولة، فليس منهم من أصبح وزيرا أو مديرا عاما أو سفيرا وحتى موظفا في السلك الدبلوماسي السعودي.
كما تحرم السعودية على الشيعة العمل في الجيش والشرطة ولا تقبل بأن يكون للشيعي السعودي ما لمواطنه السني من فرص وظيفية إلا في حدود ضيقة، كمثل العمل في دوائر البلدية والصحة وما عدا ذلك فكله ممنوع، وهذا الكلام ليس من عندي إنما هو مثبت في منشورات وتقارير دولية.
والكاتب الشيعي السعودي، توفيق السيف كشف لقناة الحرة في 21-11-2012 أن” التمييز يتضمن عدم السماح للشيعة بتولي مناصب عامة كوزير أو سفير أو حتى عميد كلية، وآخر رئيس بلدية من الطائفة الشيعية في المملكة كان في عام 1961″.
اذن فلايسمح للشيعة في المملكة السعودية تولي وظيفة مدير بلدية أو مدير مستشفى في المنطقة الشرقية ذات الغالبية الشيعية،هذا على صعيد الحقوق المتعلقة بالحياة المعيشية، والوظيفية، أما ما يتعلق منها بالحقوق السياسية فحدث ولا حرج، ويكفي أن السعودية أصدرت نحو 20 حكما بالإعدام على شباب من الشيعة السعوديين بعضهم بسبب تغريدات انتقدوا فيها الملك لا أكثر.
حيث اعتبر هذا الانتقاد البسيط تجاوزا على الذات الإلهية وحربا على الله طالما ان السلطات السعودية تعتبر الملك ظل الله في الأرض، وما زال رجل الدين المعروف نمر النمر ينتظر حكما بالإعدام ويقبع جريحا في السجون السعودية بسبب عبارة واحدة قالها في لحظة غضب لما يجري من تجاوزات على ابناء طائفته.
لم يحمل النمر سلاحا ولم يواجه السلطة بالقوة، إنما قال عن أحد الأمراء السعوديين بعد وفاته إنه”يرقد الأن مع الشيطان ولن يدخل الجنة” هذه العبارة كانت على الحكم السعودي أقسى من مليون قذيفة فسارعت لاعتقال النمر بعد أن أطلقت النار عليه وجرحته.
ومثل هذا لم يحدث في العراق، فالناس يشتمون يوميا كبار مسؤولي الدولة وفي مقدمتم رئيس الوزراء نوري المالكي، في الفضائيات ووسائل الإعلام الأخرى وفي المقاهي والسيارات والأماكن العامة دون خشية من محاسبة أو معاقبة آنية.
ولم يعد بخاف على العالم بأسره موقف الحكومة السعودية من حقوق الانسان السعودي، فمنظمة هيومن رايتس ووتش المعنية بحقوق الإنسان قالت في تقريرها السنوي لعام 2012 إن” أبناء الطائفتين الشيعية والإسماعيلية يعانون تمييزا يصل في بعض الأحيان إلى حد الاضطهاد، وقد يتعرض من يفصح عن معتقداته الشيعية بشكل سري أو علني إلى الاحتجاز أو الاعتقال، وخاصة في الحرم المكي والمدينة”.
والأمر ازداد سوءا بعد 2012 فقد شهدت الأعوام التالية انتهاكات مروعة لحقوق الأقليات في السعودية، وشاهد العالم بأجمعه عمليات الترويع وقمع الاحتجاجات التي مورست خلال الاعوام الثلاثة الماضية ضد المحتجين الشيعة المطالبين بإصلاحات بسيطة قياسا بما يحصل عليه مواطنوهم السنة.
حتى أن وسائل الإعلام الدولية منعت من تغطية هذه الاحتجاجات ولم تتمكن من تغطيتها بفعل التعتيم والمنع الذي فرضته السلطات السعودية عليها.
السعودية تتجاهل حقائق سياسية عراقية
أما السبب الآخر الذي يدعو إلى السخرية من التنديد السعودي بما اسمته تهميش وإقصاء السنة في العراق، فهو ناجم عن تعمد الحكومة السعودية تجاهل الوقائع على الأرض العراقية، فهي لم تشأ الإقرار بأن رئيس مجلس النواب العراقي ورئيس الجمهورية ونواب رئيسي الجمهورية ومجلس الوزراء، هم من السنة.
فضلا عن أن وزراء كل من التربية والكهرباء والزراعة والخارجية والتجارة ورئاسة اركان الجيش وقيادة القوة الجوية، وقادة ست فرق عسكرية من بينها الفرقة الذهبية من أصل عشر فرق كلهم من الطائفة السنية، فعن أي تهميش تتحدث الحكومة السعودية؟.
هذا غير أن الحكومات المحلية في المحافظات السنية منتخبة من قبل ابناء هذه الطائفة وليس بينهم شيعي واحد إلا في المحافظات المختلطة، وحتى في المحافظات ذات الغالبية الشيعية مثل البصرة وبابل هناك تمثيل في حكوماتها للطائفة السنية لأن العملية السياسية في العراق مبنية على اساس الانتخابات وهي التي توصل من يتفق الناخبون عليه الى السلطة دون تأثير من أية جهة.
فهل يتاح مثل هذا التمثيل للشيعة أو الاسماعيلية في المملكة السعودية، وهل يمكن للمسيحي في السعودية ان يعلن عن ديانته أو يمكنه بناء كنيسة داخل المملكة، أو إدخال الإنجيل الى اراضيها؟.
وهل يحق للشيعة في السعودية وهم كما سبق بيانه اكثر من اربعة ملايين شخص، تأسيس فضائية أو إذاعة خاصة بهم تعبر عن حقوقهم السياسية والدينية، كما في العراق حيث هناك أكثر من عشر فضائيات سنية ونحو 13 إذاعة محلية ودولية، فضلا عن عشرات الفضائيات الأخرى لأقليات لايتجاوز عدد نفوس بعضها 100 ألف نسمة.
حقيقة ان الاعلان السعودي غريب بل شديد الغرابة لانه يتجاوز كل حقائق الارض اليوم كما يتجاوز الماضي القريب ويعوم في سماءات أخرى من الحقد الطائفي الذي يضر بالعراق كثيرا في حال صدق العراقيون السنة به وتبنوا حيثياته.
السعودية تقود داعش
أما إذا نظرنا الى التنديد السعودي بالحكومة العراقية من زاوية أخرى فلا نحتاج الكثير من البحث لنكتشف ان هذا التنديد جزء من جبل الجليد الذي حاولت السعودية اخفاءه طوال السنوات الماضية، فهي بإعلانها هذا وما ستعلنه لاحقا تريد الضغط على الحكومة العراقية لتحقيق جملة من القضايا معتمدة على أذنابها على الأرض العراقية.
خصوصا وان هذا الضغط جاء متناغما مع مواقف مشابهة صدرت عن حكومات قطر والسعودية والبحرين، وكل ما قلناه سابقا عن السعودية ينطبق عليها لانها حكومات وراثية لا تتحمل الرأي الآخر ولاتسمح بتمثيل الاقليات ولن تتهاون في مواجهة انتقاد معارضيها بالقوة المفرطة.
المهم أن ما تريده السعودية وهذه الدول في هذه المرحلة هو الضغط باتجاه حكومة توافق وطني، بمعنى أن نتائج الانتخابات النيابية العراقية التي أفرزت نحو 200 مقعدا شيعيا، من اصل نحو330 لن تكون بذات قيمة وهو انقلاب واضح على العملية السياسية وعلى الانتخابات الاخيرة.
وتأمل الحكومة السعودية في تحقيق هذا الهدف باستخدام داعش التي صنعتها في سورية، حيث تظن ان تحقيق داعش لانتصارات على الأرض سيمنحها فرصة مثالية للتدخل في الشأن العراقي وفرض الخيارات السياسية التي تريدها من خلال إضعاف الموقف العراقي الحكومي.
وبدا واضحا أن السعودية التزمت جانب الصمت على مدى اسبوع بعد سقوط نينوى بيد داعش انتظارا لمكتسبات جديدة يحققها هذا التنظيم على الأرض ليكون تدخلها في الشأن العراقي مريحا. لكن فتوى المرجعية الدينية العليا في النجف وتمكن الجيش العراقي من استيعاب هجوم داعش والمتعاونين معه من سرايا حزب البعث والكتائب المتطرفة الأخرى قلب موازين الخطة السعودية ما حدا بها الى استعجال تدخلها في الشأن العراقي بإعلان الإثنين.
المطلوب عراقيا
لابد للحكومة العراقية من الحذر من التحرك الخليجي وخصوصا السعودي، لأن هذا التحرك يهدف الى تدخل واضح في شؤون العراق وهو إن تم فسيأتي بممثلين لـ”داعش” الى داخل العملية السياسية ويلتف على نتائج الانتخابات النيابية التي جرت في نيسان الماضي بحجة التوافق.
ومن أهم نقاط القوة التي ستحصن الموقف العراقي ضد التدخل الخارجي هو تحقيق انتصار سريع على داعش والتنظيمات المتطرفة، والإعلان بوضوح عن رفض التدخل الخارجي والمساعدات العسكرية الخارجية وحتى الأمريكية منها لأنها تأتي في إطار الترتيب لمرحلة التوافق التي تسعى لها السعودية ولن تكون بمعزل عنها.
وبدا واضحا ان التردد الامريكي حيال أزمة نينوى، جاء منسجما مع الموقف السعودي وما يراد تطبيقه في العراق، فأمريكا كما السعودية ليست مستعجلة في تقديم الدعم للحكومة العراقية لأنها تريد لها الوصول الى نقطة الضعف التي تمكنها من الضغط عليها وفرض إملاءات لاتتفق مع حق الأغلبية في إدارة شؤون البلاد.
ولعل العراقيون ينتظرون موقفا آخر من المرجعية الدينية في النجف تمنع فيه الاستماع الى الإملاءات الخارجية وتشدد على التمسك بالمسار الديمقراطي وما تفرزه نتائج الانتخابات في تشكيل الحكومة المقبلة بعيدا عن التوافق الذي تريده السعودية واطراف خارجية أخرى.