مقولة وتعليق / 60 / علة الحب و نبض القلب

مقولة وتعليق / 60 / علة الحب و نبض القلب

في هذه المقالة سنعرج على قصيدة ( دعوا لي اطباء العراق ) للشريف الرضي – شاعر العراق وشريفه – , و لقد شاع في المشارق والمغارب أن الشريف الرضي كان من المغرمين، فقد كان القدماء يضربون الأمثال بقصائده الحجازيات، فيقولون ما معناه: لا تصقل نفس المتأدب إلا إن حفظ هاشميات الكميت، وخمريات أبي نواس، و زهديات أبي العتاهية، وتشبيهات ابن المعتز، ومدائح البحتري، وحجازيات الشريف الرضي … ؛ فالشريف كان معروفًا عند القدماء بصدق اللوعة والصبابة، وكانت أشعاره في الحب كؤوسًا يعاقرها المتيمون… ؛ وقد انشد قائلا :

دَعوا لي أَطِبّاءَ العِراقِ لِيَنظُروا *** سَقامي وَما يُغني الأَطِبّاءُ في الحُبِّ

أَشاروا بِريحِ المَندَلِ اللُدنِ وَالشَذا *** وَرَدِّ ذَماءِ النَفسِ بِالبارِدِ العَذبِ

يُطيلونَ جَسَّ النابِضينِ ضَلالَةً *** وَلَو عَلِموا جَسّوا النَوابِضَ مِن قَلبي

في هذه الأبيات، يعبّر الشريف الرضي عن عجزه أمام آلام الحب التي لا يستطيع الأطباء علاجها، رغم مهارتهم في تشخيص الأمراض الجسدية … ؛ فها هو يدعو أطباء العراق لفحصه، لكنه يسخر من قدرتهم على علاج سقمه، لأن داء الحب لا دواء له… ؛ فمرض العشق يصيب الروح ويؤذي النفس ولا علاقة له بالأمراض الجسدية ؛ كي يصف الاطباء لشاعرنا الشريف علاجات مادية (كالعطور الباردة أو المشروبات المنعشة) لأنها عديمة الجدوى… ؛ وكذلك سخر شاعرنا من الاطباء لأنهم يضيعون الوقت في فحص النبض الجسدي، بينما لو عرفوا حقيقة مرضه، لفحصوا “نوّابض قلبه” .

نعم هو دعا الاطباء العراقيين لفحص جسده ؛ فلعلهم يجدون تفسيرًا لهذا السقم الذي أنهكه … ؛ لكنه يعلم أنهم عاجزون، لأنهم خبراء في أمراض الجسد فحسب ، لا في جراح الروح والنفس … ؛ واقصى ما يقومون به وصف العطور الفواحة، والمشروبات الباردة وغيرهما من الادوية المادية ، ويتفحصون نبضه باهتمام، كأنهم يقرأون أسرار الحياة في عروقه … ؛ لكن كل هذا لا يفيد… ؛ فلو كانوا يعرفون الحقيقة، لَما أضاعوا وقتهم في النبض الواهن، ولأدركوا أن النبض الحقيقي يكمن في قلبه المكلوم، الذي يخفق بحبٍّ لا يُشفى بوصفة طبية.

فكأنه يقول للأطباء : إن مرض الجسد يُقاس باليد والعين ، لكن مرض القلب يُقاس بالدموع والأنين. فدعوكم من ضجيج العِلَل الظاهرة، فما أصابني ليس بجرحٍ ينزف دماً، بل بحريقٍ يذيبني من الداخل… وكيف لكم أن تطفئوا نارًا لا ترونها؟!

الحب علة والعشق مرض من نوع اخر مختلف ؛ والفحص الطبي والعلاجات التقليدية لا تجدي نفعا مع مرض الحب ؛ فهو يتطلب علاجا خاصا , وهذه العلاجات لا يمكنها أن تفيد في علاج مرض الحب، لأنها لا تتعامل مع الأسباب الجذرية للمرض والاسباب الحقيقة للعلة … ؛ وهذه الابيات الشعرية عبرت تعبيرا صادقا عن حالة العاشق والمصاب بداء الحب , والاشواق والآلام التي يمر بها العاشق، والتي يعجز الطب والاطباء عن علاجها .

 

هذه الأبيات نموذجٌ للشعر العباسي الذي يُمزج بين العاطفة الصادقة والسخرية الذكية، ويعكس فلسفةً تأثير الروح على المادة ( الجسد ) .

أحدث المقالات

أحدث المقالات