لا تختلف أيامنا في عهد الطفولة في بعض الحالات الاجتماعية العامة من ناحية مسألة الوقت وانما اختلفت من مسألة التطوير العلمي الذي دخلت فيه التكنولوجيا الحديثة وعالم الذكاء الصناعي في كل شيء.
كنا نعيش في الماضي مع “خواريف العجائز” التي كانت تسحرنا بأسلوبها والسرد القصصي فيها، وإذا ما قارنا ذلك الزمان مع يومنا هذا فإننا نجدها تشبه كثيرًا أفلام الخيال العلمي التي نتابعها اليوم. الفرق بينها أن الأولى كانت تُروى على ضوء الفانوس في ليالي الشتاء الباردة، مع ذلك الظلام الدامس في خارج المنزل وأنت تعيش في تلك الغرف الطينية التي تجمع الغرفة الواحدة كل أفراد العائلة وهم يعيشون البساطة في الفراش الواحد المصنوع من مكونات بسيطة جدًا، بينما تُعرض الثانية على الشاشات الكبيرة وسط تقنيات بصرية مذهلة، وفي وضح النهار وبعيدًا عن عالم الخوف والرعب رغم أنها قد بنيت قصصها وكتبت من باب الخيال العلمي ممزوجة بأماكن مهجورة صنعها أصحاب هذه الأفلام من مخيلاتهم التي ذهبت بهم بعيدًا عن واقع المدن الحديثة وحياة العصر التكنولوجية…
إنها ذكريات نستعيدها من مرحلة الطفولة، حين كنا أطفالًا نحلق حول أمهاتنا وجداتنا في تلك الغرف الطينية الدافئة، ننتظر بشغف أن تبدأ الحكاية… ومع أول صوت للرعد أو وميض للبرق، كانت القصة تصبح أكثر إثارة. تبدأ العجوز بسردها، وغالبًا ما تكون عن مخلوق غريب أو روح هائمة في أطراف القرية. نستمع ونحن نرتجف، ثم نغطي رؤوسنا تحت الأغطية، خوفًا من أن يزورنا ذلك الكائن في الحلم. كان الحيوان الأكثر رعبًا هو ما كنا نسمعه في حكايات تلك العجائز “سحال بطنه بالطبگ”، وعندما كبرنا أدركنا أنها حشرة صغيرة من النوع السلمي التي ليس لها أي ضرر على بني البشر…
وكذلك عن الحنفيش والسعلوة، اللتين لم نرهما حتى يومنا هذا، لا في الطبيعة ولا حتى في برامج عالم الحيوان التي تُعرض على شاشات التلفاز منذ عشرات السنين.
لكننا ما إن كبرنا وتجاوزنا مرحلة الطفولة، وانتقلنا من الحياة إلى عالم المدينة والشوارع المكتظة بالسيارات، حتى أدركنا أن تلك القصص جميعها لم تكن إلا أوهامًا وأساطير تهدف في الغالب إلى التسلية، أو ربما لردعنا عن الخروج ليلًا، أو من باب الحرص الشديد للعائلات على أبنائها.
وما أشبه اليوم بالبارحة، إلا أن الفرق يكمن في التكنولوجيا الحديثة التي استطاعت أن تجسد لنا كل العالم الخيالي الذي كنا نشاهده في أفلام الخيال العلمي، بما تحمله من مخلوقات فضائية وكائنات يعتقد صانعو هذه الأفلام أنها كانت موجودة على وجه الكرة الأرضية قبل آلاف السنين، وكذلك ما يبحرون به من خلال السفر عبر الزمن والتكنولوجيا الخارقة. نجد فيها ما يشبه “الخرافات” القديمة، رغم اختلاف الزمن والتقنية التي لم تلغِ الحاجة إلى الخيال، بل غيّرت شكله وأدواته فقط. وقد قامت بتصوير أبطال تلك الخرافات القديمة بواسطة برامج الذكاء الصناعي وبثها في أفلام الخيال العلمي على أساس أنها حقيقة كانت موجودة في زمن ما…
إن عالم الخرافة والخيال، في النهاية، هو تعبير عن شغف الإنسان بما هو غامض، ووسيلة للهروب المؤقت من الواقع. سواء كانت حكاية تُروى على لسان عجوز، أو فيلمًا من إنتاج هوليوود، يبقى جوهرها واحدًا: خيال يثير الدهشة، وواقع لا يُصدّق. وتبقى درجة الخوف منه حسب البيئة التي يعيش فيها الإنسان، فعالم الكهرباء والأضواء الساطعة يختلف جذريًا عن عالم الفانوس والظلام الدامس الذي كان يرافق حياة ابن القرية في الماضي بعد غروب الشمس…..