المعاني والدلالات لبورصة تسعير الحكومة لضحايا هولوكوست مبنى”هايبر ماركت الكورنيش/الكوت”

المعاني والدلالات لبورصة تسعير الحكومة لضحايا هولوكوست مبنى”هايبر ماركت الكورنيش/الكوت”

*المواطن العراقي يُقدَّم دائمًا كقربان على مذبح الفشل الحكومي، حيث يُضحَّى بحياته في مجازر الإهمال والفساد المالي والإداري، بينما تكتفي السلطات الحكومية بسرعة البرق بتعويضات مادية هزيلة ووعود جوفاء لامتصاص غضب الشارع. هذا الاستهتار الممنهج بحياة الناس يكشف عن دولة تُدار بعقلية عبثية المحاصصة، تاركة مواطنيها عرضة للموت في كل كارثة جديدة.

على مدى السنوات السابقة، رفعنا الصوت عاليا، كتبنا، طالبنا، بل توسلنا إلى أعضاء مجلس النواب وحكومات المحافظات لفرض قوانين صارمة تضمن السلامة في المباني السكنية والتجارية، لكن صراخنا ذهب أدراج الرياح. فاجعة قاعة الأعراس الحمدانية في 26 أيلول 2023، التي أودت بحياة 134 شخصًا في حريق مروع خلال حفل زفاف في قرقوش شمال العراق، كانت جرس إنذار مدوٍّ لم يُسمع. حينها، طالبنا بإخضاع المولات، المطاعم، وقاعات المناسبات لتشريعات ملزمة تفرض شروط السلامة والامان، مستلهمين تجارب الاتحاد الأوروبي، أستراليا، الولايات المتحدة، وكندا، حيث لا تُمنح رخص البناء إلا بعد التحقق من أنظمة إنذار الحريق، مخارج الطوارئ، والرشاشات الأوتوماتيكية. لكن، وبعد عامين فقط، كررت فاجعة “هايبر ماركت الكورنيش” في الكوت المشهد المأساوي ذاته. مبنى تجاري من خمسة طوابق بلا أدنى معايير السلامة والامان ، بلا مخارج طوارئ أو أنظمة إطفاء حرائق ذاتية، يحصد أرواح العشرات بسبب إهمال متعمد وفساد مستشري. أين التشريعات التي طالبنا بها؟ أين المسؤولية؟ الحكومة، التي تجيد التعازي وتشكيل لجان تحقيق عاجزة، تستمر في التغاضي عن المباني غير الآمنة، تاركة المواطن العراقي يدفع ثمن الفشل الإداري بحياته. إن تجاهل هذه المطالب ليس مجرد تقصير، بل جريمة بحق الشعب، تكشف عن دولة أسيرة المحاصصة والرشاوى، غير آبهة بأرواح مواطنيها.

وفي ليلة مظلمة من ليالي تموز 2025، راينا كيف تحولت مدينة الكوت بسرعة من وجوه ابتسامات الاطفال والعوائل إلى مسرح لفاجعة إنسانية مروعة، حيث التهم حريق هائل مبنى “هايبر ماركت الكورنيش” ليودي بحياة أكثر من 60 شخصًا، بينهم أطفال ونساء، وعوائل بأكملها ويترك خلفه عشرات المصابين ومفقودين ما يزالون تحت الأنقاض. هذا الحادث المأساوي ليس مجرد كارثة عابرة، بل هو صرخة مدوية ما تزال تسمع صداها بقوة لتكشف عن الحجم الهائل الذي بلغه الفساد المستشري، وغياب أدنى معايير السلامة والأمان، وعقلية المحاصصة الطائفية والحزبية التي تحرق العراق وشعبه بنيران الإهمال. في هذا المقام وسياق المقال، نستعرض هذا الإخفاق المؤلم، مقارنين إياها بقوانين وتشريعات بأنظمة السلامة والأمان الصارمة في بعض الدول العربية التي سارعت لتحديث البنية التحتية واستثمرت فيها وكذلك الدول الغربية، لنبرز الفجوة الهائلة بين واقع العراق المزري وسعي الدول المتقدمة لحماية أرواح مواطنيها بأي ثمن ؟.
مبنى “هايبر ماركت الكورنيش”، الذي افتتح يوم الثلاثاء وقبل أسبوع من الحادثة الأليمة، لم يكن سوى قفص موت مغلق. خمسة طوابق، تحتوي مطعمًا ومركزًا تجاريًا، دون أدنى مقومات السلامة. لا مخارج طوارئ، لا أنظمة إنذار حريق، لا رشاشات أوتوماتيكية لمكافحة الحرائق، ولا حتى سلالم طوارئ داخلية تكون من على الجانبين تتيح للعالقين فرصة النجاة . شهادات الناجين، تتحدث عن انفجار مكيف هواء أشعل الحريق، ليتفحم العشرات اختناقًا في دورات المياه والمخازن، حيث حوصروا دون أمل في الإنقاذ. كيف يُسمح لمبنى كهذا، يستقبل مئات الزوار يوميًا، أن يعمل دون أي إجراءات وقائية؟ الجواب يكمن في كلمة واحدة : ابحث عن الفساد.
محافظ واسط، محمد جميل المياحي، كشف عن تفاصيل صادمة: المبنى لم يحصل على إجازة بناء رسمية، وتحول بين ليلة وضحاها من مطعم إلى مركز تجاري دون موافقات قانونية. هذا التحايل، أو التغاضي المتعمد من الجهات الرقابية المعنية والمؤسسات الحكومية ، هو نتاج نظام فاسد يعتمد على العلاقات الحزبية والعشائرية والرشاوى. بينما كان المبنى يفتقر لأبسط معايير السلامة، كانت الجهات الرقابية تغض الطرف، تاركة أرواح الأبرياء رهينة الإهمال.
في الدول الغربية، تخضع المباني التجارية والعامة لمعايير سلامة صارمة تحمي الأرواح وتضمن استمرارية الخدمات. على سبيل المثال، في المملكة المتحدة، ينص قانون السلامة من الحرائق ( (Fire Safety على ضرورة تجهيز المباني بأنظمة إنذار حريق متصلة مباشرة بمحطات مراكز الإطفاء، ورشاشات أوتوماتيكية، ومخارج طوارئ واضحة ومُضاءة بصورة دائمة . ويتم توزيع مراكز الإطفاء بشكل استراتيجي ضمن المناطق الجغرافية، بحيث لا يتجاوز زمن الاستجابة دقائق معدودة. كما تخضع المباني لتفتيش دوري من قبل فرق متخصصة للتأكد من الامتثال لمعايير السلامة والأمان. في الولايات المتحدة، يفرض قانون البناء الوطني (National Building Code) متطلبات صارمة على المباني المرتفعة، تشمل سلالم طوارئ مقاومة للحريق، أنظمة تهوية متقدمة، تدريبات دورية للعاملين على إجراءات الإخلاء. أما سيارات الإطفاء، فهي مجهزة بسلالم هيدروليكية تصل إلى طوابق مرتفعة، وطواقم مدربة تدريبًا احترافيًا للتعامل مع الحرائق في المباني المعقدة. هذه الأنظمة ليست ترفًا، بل هي نتاج إدراك عميق بأن حياة الإنسان لا تقدر بثمن.
ولكن في المقابل، يعاني العراق من انهيار شبه كامل في منظومة السلامة. مبنى “هايبر ماركت الكورنيش” لم يكن استثناءً، بل هو نموذج للواقع المرير. شهود العيان والمقابلات معهم التي اجرتها بعض القنوات الإخبارية المحلية شهادات أكدت أن فرق الدفاع المدني عانت من بطء الاستجابة ونقص المعدات، حيث فشلت في الوصول إلى الطابقين الرابع والخامس بسبب شدة النيران . سيارات الإطفاء ، التي غالبًا ما تفتقر إلى السلالم المتحركة أو المعدات الحديثة، لم تكن مؤهلة للتعامل مع حريق في مبنى متعدد الطوابق. أين الكوادر المهنية المتخصصة؟ أين التدريب؟ أين المعدات التي يفترض أن تحمي المواطنين؟ العلاقات الشخصية والحزبية والعشائرية، التي تحكم منح التراخيص البناء وتوزيع المشاريع، أدت إلى افتتاح عشرات ومئات المبانٍ غير آمنة، دون الالتزام بأي معايير . هيئة النزاهة ومجلس الوزراء أعلنا عن تحقيقات، لكن هل ستكون هذه التحقيقات شفافة، أم مجرد مسرحية لامتصاص غضب الشارع؟ التاريخ العراقي مليء بالحوادث التي انتهت بوعود فارغة دون محاسبة حقيقية.  لذا نرى في الدول الغربية، توجد قوانين صارمة وواضحة، مع هيئات رقابية مستقلة تتأكد من تطبيقها. في العراق، القوانين موجودة على الورق، لكن تنفيذها يخضع للمحسوبية والرشوة. والدول الغربية تستثمر في مراكز إطفاء موزعة استراتيجيًا، مزودة بأحدث المعدات. في العراق، تعاني فرق الدفاع المدني من نقص الموارد والتدريب، مما يجعلها عاجزة أمام الكوارث وفي الغرب الكافر ، نرى ونشاهد ونسمع بأن أي تقصير يؤدي إلى كارثة يتبعه تحقيق شفاف ومحاسبة صارمة. في العراق، تُغلق القضايا بتقارير شكلية، تاركة الجناة دون عقاب. الدول المتقدمة، يتم تثقيف المواطنين حول إجراءات السلامة، بينما في العراق، يغيب الوعي العام، مما يفاقم من حجم الكوارث.
حريق “هايبر ماركت الكورنيش” ليس مجرد حادث، بل هو جريمة موصوفة. إنه نتاج نظام فاسد يستهين بحياة الناس، يمنح التراخيص لمبانٍ غير آمنة، ويترك المواطنين عرضة للموت بسبب الإهمال. بينما تحتفل الدول الغربية بثقافة المسؤولية والسلامة، يغرق العراق في مستنقع المحاصصة والفساد. التحقيقات الموعودة لن تعيد الأرواح التي أُزهقت، لكنها قد تكون بداية لإصلاح حقيقي، إذا ما كانت نزيهة. أما الشعب العراقي، فيستحق أكثر من مجرد تعازٍ ووعود فارغة. إنه يستحق نظامًا يضع حياته في المقام الأول، ويحاسب من يعبث بأمنه وسلامته. حتى ذلك الحين، ستبقى الكوت، وغيرها، تنزف دمًا ودموعًا تحت وطأة الفساد وما يزال يواجه العراقي الموت من كل صوب: تفجيرات السيارات المفخخة، العبوات الناسفة، الاغتيالات، حوادث الطرق المميتة، والحرائق المتكررة في المولات التجارية وقاعات المناسبات. هذه المآسي، التي تحصد الأرواح يوميًا، تكشف غياب إجراءات السلامة والأمان، وسطوة المحسوبية الحزبية والعشائرية، والتغاضي عن المعايير الفنية في تنفيذ المشاريع. حريق “هايبر ماركت الكورنيش” ليس سوى حلقة جديدة في سلسلة الكوارث التي تُظهر استهتارًا رسميًا بحياة المواطن. في ظل غياب الرقابة الميدانية من البلديات والجهات الهندسية المختصة، تُمنح تراخيص لمبانٍ دون التحقق من شروط السلامة، مثل أنظمة إنذار الحريق، مخارج الطوارئ، أو الأسلاك الكهربائية المطابقة للمواصفات. الفساد يتحكم بمصير المشاريع، حيث تُشيَّد مبانٍ رديئة تهدد حياة المواطنين، بينما تكتفي الحكومة المركزية والمحلية بتقديم التعازي وتعويضات زهيدة، كما في حالة الكوت، حيث قُدرت حياة الضحية بعشرة ملايين دينار عراقي. هذه التعويضات، التي تُقدم كمحاولة يائسة لامتصاص غضب الشارع، لا تعالج جذور المشكلة. مجلس الوزراء، في استجابة نمطية، أعلن تشكيل لجنة تحقيقية للنظر في حريق الكوت، مع مهلة خمسة أيام لتقديم توصيات تحدد المقصرين. لكن هذه اللجان، التي سبقتها لجان مماثلة في حوادث مستشفى ابن الخطيب، مركز النقاء في ذي قار، وقاعة اعراس الحمدانية في نينوى، غالبًا ما تدور في حلقة مفرغة، دون نتائج ملزمة أو محاسبة حقيقية. في الدول التي تحترم مواطنيها، يسارع المسؤولون إلى تقديم استقالاتهم ويخضعون للتحقيقات شفافة ونزيهة وعلنية . أما في العراق، فتتحول الكوارث إلى ساحة للتراشق السياسي، حيث تستغل الأحزاب الحوادث لتصفية الحسابات، دون السعي لحلول جذرية. بدلاً من إصدار تشريعات صارمة تلزم بتطبيق معايير السلامة قبل منح التراخيص، تستمر الحكومة في تسعير أرواح الضحايا، متجاهلة الأسر التي تُدمر والمستقبل المظلم الذي ينتظر المزيد من العراقيين. إن استمرار هذا الإهمال يجعل تكرار المآسي حتميًا، ويؤكد أن حياة المواطن العراقي لا تزال رهينة فسادٍ ينخر الدولة.
دبي، العاصمة الاقتصادية لدولة الإمارات، التي وصفها قبل سنوات أمين العاصمة بغداد السابق وصاحب مقولة “هي شنهي دبي كله زرق ورق” تعتبر اليوم نموذجًا عالميًا في إدارة الأزمات، حيث أدخلت قبل سنوات منظومة متطورة للطائرات المسيرة والإطفاء الجوي ضمن استراتيجية مدروسة لمكافحة الحرائق، خاصة في المباني العالية. هذه المنظومة، التي تجمع بين التكنولوجيا الحديثة والتخطيط الاستباقي، ساهمت في تحقيق استجابة فورية وفعّالة، كما ظهر في حريق برج المارينا عام 2025، حيث تمت السيطرة على حريق في برج مكون من 67 طابقًا خلال ست ساعات فقط، بفضل معدات تقنية متقدمة وقوارب دفاع مدني لتبريد المبنى من الواجهات الخارجية. هذا النهج يعكس التزام دبي بمعايير السلامة العالمية، حيث تُستخدم الطائرات المسيرة لرصد بؤر الحرائق وتوجيه فرق الإطفاء بدقة، مما يقلل الخسائر البشرية والمادية.

في المقابل، تكشف فاجعة حريق “هايبر ماركت الكورنيش” في الكوت عن واقع عراقي مزرٍ، حيث يغيب التخطيط والكفاءة. سيارات الإطفاء في العراق تفتقر إلى أبسط المقومات، مثل السلالم الهيدروليكية، وهو ما أعاق الوصول إلى الطوابق العليا في المبنى المحترق. والأكثر إثارة للغضب، ظهور شاحنة إسمنت، مخصصة أصلًا لصب الخرسانة في الطوابق العليا، تُستخدم بشكل بدائي لإنقاذ عالقين على سطح المبنى، بينما تقاعست فرق الدفاع المدني عن الاستجابة السريعة. أما شاحنات مكافحة الشغب، المجهزة بمدافع مياه تصل إلى 150 مترًا ومتوفرة بأعداد كبيرة قرب مبنى المحافظة، فلم تُستخدم لإخماد الحريق، رغم قدرتها النظرية والعملية على ذلك. هذه الشاحنات، المصممة لقمع المتظاهرين لتدخل بسرعة فائقة ارض المعركة خلال دقائق، ظلت بعيدة عن مسرح الكارثة، مما يكشف عن أولويات مشوهة تهتم بقمع المواطنين بدلاً من حمايتهم. هذا التناقض الصارخ يعكس فجوة هائلة بين رؤية دبي الاستباقية، التي تستثمر في التكنولوجيا والتدريب لضمان السلامة، وواقع العراق، حيث يسود الإهمال والفساد. بينما تُظهر مقاطع الفيديو المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي كفاءة دبي في إدارة الأزمات، تُبرز مشاهد الكوت عجزًا مؤلمًا، حيث تُترك الأرواح لتواجه مصيرها دون معدات كافية أو استجابة فعّالة. إن غياب استراتيجية وطنية لمكافحة الحرائق في العراق، وتفضيل قمع التظاهرات على حماية الأرواح، يعكسان استهتارًا رسميًا يتطلب إصلاحًا عاجلاً ومحاسبة صارمة للمقصرين ولكن جميع ما يطلبه المواطن تذهب مع الريح ويتم تخبئتها في إدراج الإهمال , حيث ما يزال يسجل العراق سنويًا مئات الحرائق التي تودي بحياة المئات من المواطنين، خاصة خلال فصل الصيف الحار حيث تقترب درجات الحرارة من 50 درجة مئوية. هذه الكوارث، التي تتفاقم في ظل تدهور البنية التحتية بعد عقود من الصراعات، تُظهر عجزًا حكوميًا صارخًا في حماية المواطنين. حريق “هايبر ماركت الكورنيش” في الكوت، الذي أزهق أرواح العشرات، ليس سوى فصل جديد في سلسلة مآسي باتت جزءًا من الواقع العراقي. على الرغم من التحقيقات والإجراءات الحكومية التي تُعلن بعد كل كارثة، لم تُفضِ هذه الجهود إلى أي حلول جذرية. معايير السلامة في قطاع الإنشاءات تكاد تكون معدومة، وإن وُجدت، فهي مجرد شكليات حبر على ورق. العلاقات الحزبية والشخصية والرشاوى تتحكم في منح رخص البناء ومزاولة المهن، دون أدنى التزام بشروط السلامة كأنظمة الإنذار أو مخارج الطوارئ. هذا الفساد المستشري يحول المباني التجارية والسكنية إلى مصائد موت، تفتك بالعراقيين دون رحمة. إن استمرار هذا الإهمال ليس مجرد تقصير، بل جريمة ممنهجة تُكرّس معاناة شعب يستحق الأمان والحياة الكريمة.

[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات