منذ تأسيس الدولة العراقية ونحن نسمع بجهاز إداري يُدعى “البلدية”، والذي كان يُعرف في السابق باسم “القائمقامية”. وعلى الرغم من تغيّر التسميات، فإن صلة هذا الجهاز باحتياجات الناس ظلت ضعيفة، إن لم تكن معدومة.
تُعدّ البلدية في بلدان الشرق الأوسط أصغر وحدة إدارية بعد الدولة والمحافظة. ويختلف شكلها القانوني والإداري من بلد إلى آخر، لكنها في الجوهر تمثل حكومة محلية مصغّرة، تُجسّد النظام السياسي القائم في العراق، سواء في ظل النظام الدكتاتوري أو ضمن النظام الديمقراطي بعد 2003، بقيت البلدية تحمل الشكل ذاته، لكنها في الممارسة، لم تكن معنية بخدمة المواطن بقدر ما تحوّلت إلى أداة لتحصيل الأموال، سواء بالطرق المشروعة أو غير المشروعة.
سنّت الحكومات المتعاقبة سلسلة من القوانين والتعليمات والأنظمة، بعضها خُصّص لتسهيل الخدمة، وبعضها الآخر استُخدم كغطاءٍ للابتزاز والتجاوز على حقوق المواطنين. فأصبحت البلدية في معظم المدن العراقية رمزًا للفساد الإداري، والتنمر المؤسسي، وتأخير التنمية الحضرية بدلًا من تسريعها.
والبلدية بدلاً أن تنهض بالبنى التحتية، وتنظّم الأسواق والمهن، وتُشرف على البناء وتطوير الفضاءات العامة. البلدية أصبحت عبء على الدولة والمواطن بسبب تفاقم الفساد والهدر واعاقة تقدم المدن وجمالها وأصبحت قوة لفرض الضرائب غير القانونية، وفرض “الخاوات” على أصحاب المحال والبسطيات. بل وتحولت القوانين إلى وسائل ابتزاز لا إلى أدوات تنظيم وعدالة.
موظف البلدية لا يلاحق المخالفين بدافع الحرص على المصلحة العامة، بل يبتزّ المواطن عبر “وصولات مخالفة” وهمية أو مزوّرة، ويعلم المواطن أنه حتى لو كانت لديه مظلومية، فلن يستطيع الطعن، لأن خلف الموظف جدارًا من الحماية الحزبية أو العشائرية أو الميليشياوية. والأنكى، أن بعض الموظفين يتحصنون خلف ولاءات سياسية أو عشائرية تُمكّنهم من قمع أي اعتراض.
حتى عندما ناقش رئيس الوزراء محمد شياع السوداني موضوع فساد البلديات، لا سيما في ما يتعلّق بظاهرة تفتيت الوحدات السكنية، لم تُفضِ تلك النقاشات إلى حماية فعلية للمواطن، بل زادت الأتاوات، وتوسعت مظاهر الاستغلال.
البلدية في النظام الدكتاتوري كانت أداة مركزية؛ توفَّر فيها الخدمات حسب درجة الولاء للسلطة. أما في النظام الديمقراطي، فأصبحت فريسة للأحزاب والعشائر، وتحولت إلى “مالٍ سائب”، يُهدر فيه المال العام، ويُجمَع من خلاله المال الخاص بوسائل غير قانونية.
البلدية المؤسسة الاولى التي تصنع الفقر والفساد والظلم وجدلية العلاقة مع المواطن تبقى صعبة ومعقدة لان تنين البلدية باقي ومهما تغير شكل النظام السياسي .ان حاجة المواطن تدفعه لدفع الاتاوه من اجل اكمال بناء بيته والا يتدخل موظف البلدية حتى في تفاصيل صبغ البيت ويعدها مخالفة تعطل البناء وان استلم المقسوم فهو لايبالي بالمواصفات ولا بالتصميم ولك ان تبني ما تشاء وهو لايكترث وغير مسؤول لأن سياتي موظف بلدية اخر يحاسب على مخالفة الماضي والدفع يستمر حتى ولو بالاجل ومثل ذلك الابتزاز الصارخ .ان مواطن رمم بيته واضاف في البناء غرفة او حمام ودون التصميم الاساس فعليه ان يدفع غرامه تلك المخالفة وهذا حق قانوني ولكن عندما يبيع صاحب المخالفة بيته يدفع كذلك مبلغ المخالفة وتستمر تلك المخالفة كلما بيع هذا البيت ولو بعد 1400 عام هجري .
ان واحدة من اسباب عدم تطوير بغداد والمحافظات هي عملية الابتزاز الباهضة لمن يبني بيت او فندق او مستشفى او مول او اي عمارة استثمارية . ان شروط موظف البلدية ترهق كاهل صاحب الملك والمستثمر ولكن بعد دفع الاموال الطائلة يصبح الأمر سهلاً وخصوصاً عندما تكون الاتاوات على شكل دفعات وعند الامتناع او التحدي فسوف تصدم بقطع الكونكريت امام مشروع البناء وكذلك الكونكريت المافيوي الذي يقف خلف الموظف الفاسد .
إن بقاء المخالفات العمرانية وانتشار البسطيات، ليس نتيجة ضعف أو عجز، بل هو ناتج عن مصالح كبيرة لبعض موظفي البلديات. فهم أوّل من شرعن تحويل العقار الزراعي إلى سكني وهم اول من شرعن تهديم العقار السكني بحجة عدم مطابقته للخرائط والمواصفات وفي كل الاحوال ان الموافقة او الرفض في البناء لاتسبقها القوانيين والجمالية والتصميم وانما الابتزاز والاتاوه .
وإذا نظرنا إلى ما يُنجز، فسنجد أن أبسط مشروع – كإعادة تبليط شارع أو تجديد رصيف – يُقدَّم على أنه منجز تاريخي، تمامًا كما كان يفعل نظام صدام حين يُقدّم على تعبيد شوارع مدينة الثورة كـ”مكرمة”. واليوم تُعاد القصة، من خلال جسور وأرصفة ومشاريع افتتاحية تُعلن وتُصوَّر، بينما المشروع في الواقع متوقّف أو غير مُكتمل.
لو تم التحقيق جديًا في ما يُهدر من أموال في البلديات، لظهر أن حجم الهدر يفوق بكثير ما يُسرَق في الوزارات السيادية. مثلًا: غابات بغداد يمكن أن تتحول إلى مرافق ترفيهية دون المليارات، فقط عبر تنظيم جهود دوائر البلدية واستغلال الطاقات المُعطّلة بالبطالة المقنعة في دوائر الدولة جميعها .
السؤال: كيف نبني بلدية تمثل الناس ولا تُستَغل ضدهم؟
الجواب يبدأ من بناء نظام حكم محلي حقيقي، لا شكلي. نظام يُمكّن الناس من اختيار ممثليهم على مستوى الزقاق، والمحلة، والناحية، والبلدية، عبر انتخابات ديمقراطية بسيطة وواضحة وشفافة.
هذا لا يتطلب مؤتمرات دولية، وهيئات مشرفة ولا ميزانيات ضخمة ،بل إرادة سياسية، وقانون واضح، وثقافة مجتمعية تُربّى عليها الأجيال في المدارس والجامعات. ان عزوف الناس من المشاركة في الانتخابات لايعطي للهيئات واللجان المشرفة اي قيمة تذكر ولايكاد المواطن يهتم بالنتائج اذا كانت نسبة المشاركة لاتتجاوز ال 20% .
لقد اثبتت العملية الانتخابية في العراق انعدام الثقة والشفافية في العراق بين الناخب والمرشح وان التجارب الانتخابية السابقة اثبتت فشلها في خدمة المواطن وانعكست كل عملية الانتخابات في صناعة عوائل اقطاعية ودينية وحزبية حاكمة ونافذة ولاتقل عن حكم الدكتاتورية استفراداً بالسلطة والمال والاعلام وجميعها تنادي بالاصلاح والنزاهة. والمواطن ينظر بحيرة وذهول وصمت على هولاء الموظفين الذين يستقوون بانتماءاتهم غير الوظيفية .
نموذج مقترح لنظام ديمقراطي محلي
آلية انتخاب هرمية تبدأ من الأسرة وتنتهي برئاسة البلدية:
التسلسل التمثيلي:
1.كل بيت أو شقة ترشّح فردًا لعضوية مجلس الزقاق أو العمارة.
2.يُنتخب رئيس مجلس الزقاق من قبل الأعضاء.
3.رؤساء الأزقة يشكلون مجلس المحلة.
4.يُنتخب رئيس مجلس المحلة.
5.رؤساء المحلات يشكلون مجلس الناحية.
6.يُنتخب رئيس الناحية، ويُصبح عضوًا في المجلس البلدي.
7. رؤساء النواحي يشكلون المجلس البلدي
8- ينتخب رئيس البلدية من قبل المحالس الادنى بثلثي الاصوات .
الإقالة:
•يُقال رئيس أي مجلس بأغلبية النصف +1.
•يُقال رئيس البلدية بثلثي أصوات المجالس الأدنى
صلاحيات المجالس:
المجلس البلدي:
سلطة تشريعية ورقابية.
صلاحية انتخاب أو إقالة رئيس البلدية.
رئيس البلدية:•مسؤول عن الأمن والخدمات.•يُشكّل حكومة محلية مصغّرة من ،.الشرطة•الصحة•التربية والتعليم العالي•الإطفاء•الخدمات البلدية•السياحة والرفاهية•الهجرة•الرعاية الاجتماعية•الزراعة•الصناعة•العمل والتوظيف•الرياضة والشباب•الفنون . التجنيد والتعبئه.. السلطة القضائية تبقى مستقلة
موعد موحد للانتخابات:
تُجرى انتخابات الزقاق، المحلة، الناحية، القضاء، المحافظة، والدولة في يوم واحد، لتقليل التكاليف ومنع التزوير وتوفير الشفافية وبدون الانتخابات التي تتغير قوانينها تبعاً لمصلحة الاحزاب العائلية .ولاتتغير النتائج والاحصائيات رغم احتراق صناديق الانتخابات.
وفي الخاتمة : البلدية هي صورة الدولة في حياة المواطن اليومية. إن صلحت، شعر المواطن بالكرامة. وإن فسدت، غاب القانون وانتشر الظلم.
إن تبنّي نموذج ديمقراطي شعبي مبسّط، يُعيد بناء الثقة بين الناس ومؤسساتهم، ويقلّل من نفوذ شيخ العشيرة، ورجل الدين، وزعيم الحزب، ويمنح الناس سلطة اختيار ومحاسبة من يُدير شؤونهم.ان الديمقراطية السهلة تجعل الناس تراقب وتحاسب بشفافية وهدوء وبدون مهاترات عشائرية ودينية وحزبية .وسوف يصبح بمقدور الجميع الاطلاع على اي نجاح او اخفاق وسوف لن تمرر تجارب الاستبداد والفهلوة وسلطة الدين والعشيرة والحزب وسوف يكون بمقدور اي انسان قادر على العطاء خدمة ابناء القضاء ولو كان من جزر الواق واق وان كان بوذياً او سيخياناً او مسلماً او ملحداً ولكن المهم ان تجتمع عليه الاصوات التي تقدر تحمله للمسؤولية . الناس تريد رئيس بلدية مهني حرفي يجيد ادارة البلدية والتغيير فيها.الناس لاتريد منظر ومحلل سياسي وخطيب.لقد ملت الناس هذة الاشكال والاوصاف ومافيها من تعريفات النضال والجهاد والتاريخ .نريد رئيس بلدية ينقذ البلدية من وحل وفيضان الامطار وتخسفات التبليط والارصفة الملحية ووجهات الابنية الرثة وتقاطعات الاسلاك والانارة وبما يجعل المدينة وكانها بيت عنكبوت .
وعندها تكون الانتخابات عملية سهلة وشفافة ويصبح بمقدور الناس أن يُغيّروا دون صراخ، وأن يُطالبوا دون خوف، وأن يُساهموا في بناء بلدهم دون وساطة أو إذلال. وان نقتدي بتجارب بلديات ناجحة في العالم تؤمن التعليم والصحة والسكن والعمل والامن وتؤهل رئيس البلدية الناجح ان يكون محافظاً او رئيساً تنفيذياً للعراق.العطاء وتجربة النجاح في العمل هي سبب اختيار الرئيس التنفيذي وليس النضال والجهاد ومقدار ماقدم من تضحيات ،
نتمنى ان نقتدى بتجربة النجاح في دول العالم وبدون ضجيج ومناكفات ومهاترات واكاذيب وتضليل من اجل الاستحواذ على السلطة .الانتخابات المباشرة للرئيس التنفيذي تخلص العراقيين من حكم العوائل واللعب بمصير البرلمان .