مأساة الكوت وأزمة الدولة العراقية

مأساة الكوت وأزمة الدولة العراقية

في ليلة الأربعاء 16 يوليو/تموز 2025، اندلع حريق مدمر في مجمع تجاري بمدينة الكوت، مركز محافظة واسط في العراق، بعد افتتاحه بأيام، وأسفر عن سقوط ما بين 60 و69 ضحية، وإصابة وإخفاء العشرات تحت الأنقاض. وأظهرت التحقيقات الأولية أن السبب كان تماساً أو انفجاراً في مكيف داخل قسم العطور، قبل أن تنتشر النيران بسرعة هائلة نتيجة انعدام إجراءات السلامة الأساسية، مثل مخارج الطوارئ وأجهزة الإنذار ومنظومة الإطفاء، وعدم استخدام مواد بناء مقاومة للحريق.

 

أنقذت فرق الدفاع المدني أكثر من 45 شخصاً، بينهم من تم إنزالهم من السطح باستخدام الرافعات، وسط كثافة دخان قاتل. وقد أمر رئيس الوزراء العراقي بفتح تحقيق فني دقيق، ورفع دعاوى قضائية ضد أصحاب المول والمبنى، فيما أعلنت المحافظة حالة حداد لثلاثة أيام.

 

ليس حريق الكوت مجرّد حادث عرضي أو نتيجة إهمال إداري موضعي، بل هو تجلٍّ صارخ لأزمتين مترابطتين تعاني منهما الدولة العراقية: أزمة السيادة، وأزمة رجال الدولة.

 

أزمة السيادة

 

لطالما جرى اختزال السيادة في بعدها الأمني أو العسكري، وربما السياسة الخارجية، كما لو أن مفهوم السيادة حكر على ملفات الحدود والعلاقات الدولية. لكن السيادة، في معناها الأعمق، لا تستقيم إلا حين تتجلى في تفاصيل الحياة العامة، وحين تكون سلطة القانون نافذةً في أبسط الإجراءات وأدق التفاصيل. السيادة تبدأ من سيادة القانون على الأرض، بحيث تتجلى بشكل واضح؛ في متانة وكفاءة البنى التحتية، في رصانة عقود البناء والصيانة، في شفافية منح الرخص الاستثمارية، في صرامة معايير السلامة، في دقة فحص جودة المواد والأشغال، في تطبيق شروط الدفاع المدني، في الرقابة الإدارية والهندسية، في الإجراءات الوقائية والمتابعة الدورية، في عمليات الكشف والتفتيش الميداني، وفي محاسبة كل من يثبت تقصيره، أيّاً كان موقعه.

السيادة تشريعات وسياسات وممارسات وجهود مؤسسية مستدامة، رقابية ووقائية واستباقية، وإشرافية وتقويمية، تنشط على مدار الساعة، وتطال كل مفصل وكل زاوية من مفاصل وزوايا الدولة لضمان سلامة ورفاه ونماء المجتمع.

حين تحترق أجساد الضحايا داخل بنايات عامة أو خاصة يُفترض أنها مصمّمة ومعدّة لاستيعابهم وخدمتهم، فإننا لا نكون إزاء خلل فني فقط، بل أمام فشل بنيوي يمس جوهر الدولة.

وحين تتكرر الكارثة، كما تكررت في فواجع حصلت في بغداد والموصل وذي قار والبصرة، ثم الكوت، فإننا نكون في قلب انهيار أخلاقي وقانوني وإداري لا تخفيه بيانات التضامن ولا تغطيه اللجان التحقيقية.

ليست الأجهزة الأمنية وحدها هي الأجهزة السيادية في الدولة. هذه نظرة تقليدية وقاصرة لمفهوم السيادة. في الدولة الحديثة، كل أجهزة الدولة سيادية لأنها تشترك في حماية الأمن الوطني، الذي لم يعد يُفهم بمعناه العسكري أو البوليسي فقط – أي الأمن المعتمد على القوة الصلبة والسلاح والاستخبارات – بل بات مفهوماً مركّباً ومتعدّد الأبعاد يشمل الأمن الإنساني والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والصحي والبيئي والحقوقي والتنموي، وحتى العاطفي والوجداني.

بمعنى أن منح رخصة استثمارية هو إجراء سيادي، وفحص سلامة الإنشاءات ومطابقتها للمواصفات والمعايير هو ممارسة سيادية، وحماية المستهلك هي نهج سيادي، ومراقبة جودة السلع والخدمات هي فعل سيادي، وحماية وتحسين البيئة يندرجان تحت عنوان السلوك السيادي للدولة، وبناء الثقة وخلق الشعور بالأمان لدى أفراد المجتمع في البيئة المادية والطبيعية المحيطة بهم هو سياسة سيادية تقع في قلب مفهوم الحكم الرشيد.

حين تفشل مؤسسات الدولة في تأمين السلامة العامة، ففشلها لا يقل خطورة عن فشل جهاز أمني في حفظ الحدود. وحين تتسرب سموم الفساد والإهمال وانعدام الكفاءة إلى مؤسسات الإدارة أو الرقابة أو الصحة أو التعليم أو البيئة أو البلديات أو النقل أو المالية، فإن ذلك يمثل تهديداً مباشراً لأمن الدولة ومواطنيها، تماماً كما لو كان هناك اختراق في الأجهزة الدفاعية والأمنية.

 

أزمة رجال الدولة

 

في المقابل، فإن الحديث عن “رجال الدولة” لا يجب أن يُختزل هو الآخر في رؤساء الحكومات والوزراء وأصحاب القرار السياسي. رجل الدولة ليس فقط من يتخذ قرارات كبرى، بل كل من يتعامل مع موقعه بوصفه جزءاً من المنظومة العامة المسؤولة عن سلامة البلد ومواطنيه. كل موظف وموظفة في القطاع العام، من أدنى السلّم إلى أعلاه، مطالب بأن يتصرف وفق روح القانون، ووفق قيم الخدمة العامة، لا بوصفه “موظفاً عادياً” يؤدي واجباً روتينياً، بل بوصفه عنصراً في جسد الدولة وممثلاً لها على الأرض.

 

الطبيب والإداري والمهندس والشرطي والمعلم ورجل الدفاع المدني والمُدقّق في العقود ومُراقب السلامة وفاحص السيطرة النوعية، جميعهم هم “رجال ونساء دولة” حين يتقنون مهنتهم ويحتكمون إلى القانون والتعليمات النافذة، ويرفضون المجاملات والمساومات والفساد واللامبالاة.

 

المشكلة أن هذه الدولة، في أغلب إداراتها، لا تنتج رجال دولة بل تُفرغ مواقعها الوظيفية من مضامينها المهنية والقيمية، وتحوّل مؤسساتها إلى أقبية بيروقراطية باردة تُدار بالحسابات الشخصية والانتماءات الحزبية، لا بالعقل المهني ولا بروح الوطنية.

 

حريق الكوت ليس كارثة محلية، بل هو جرس إنذار وطني: أن نعيد تعريف السيادة بوصفها نظاماً مؤسسياً يعمل ويحمي، وأن نُربّي أجيالاً من كوادر الدولة ليكونوا رجال ونساء دولة بالمعنى الحقيقي، لا مجرّد موظفين في دولة عاجزة.

أحدث المقالات

أحدث المقالات