في مدينة الحلة، حيث تمتزج أطياف التاريخ بعبق الفرات، ولد حامد كعيد الجبوري في محلة الورديّة عام 1952، فكان كما الزهر ينهل من ماء الأرض ويصغي لصدى الذاكرة، لينشأ لاحقًا واحدًا من أبرز من أخلصوا للتراث الشعبي، وكرّسوا حياتهم للكتابة عن وجدان الناس، لا من وراء المكاتب المغلقة، بل من قلب الميدان الشعبي، حيث القصيدة نابعة من جرح، والمفردة مبلّلة بندى الحقيقة.
لم يكن حامد الجبوري شاعرًا شعبيًا فحسب، بل باحثًا ومؤرّخًا لتجربة الشعر الشعبي العراقي، وصوتًا لنبضه. إذ نذر قلمه للناس، فكتب عنهم، وكتب لهم، وأوفى للذاكرة العراقية بما استطاع إليه سبيلًا. لم يغره صخب الأضواء، بل كان يعمل بصبر الأنهار، يشقّ مجراه في وجدان الناس، ويترك أثره في كل من تتبع خطاه، أو أصغى لصوته.
بعد تخرّجه من الكلية العسكرية سنة 1969، اختار لنفسه مسارًا غير تقليدي، فالتحق بالدراسة المسائية للغة العربية في الجامعة المستنصرية، ليجمع بين انضباط المؤسسة العسكرية ورهافة اللغة، وهو ما انعكس في مشروعه الثقافي الذي جمع بين الرصانة في التوثيق، والعذوبة في التعبير.
نشر الجبوري العشرات من الدراسات في التراث الشعبي في مجلات وصحف مرموقة مثل التراث الشعبي والصباح وطريق الشعب، كما كان له حضور رقمي كثيف في أبرز المواقع الثقافية العراقية والعربية، مما جعله قريبًا من جمهور واسع من القراء، ومن النخبة الثقافية على حد سواء.
وقد تولّى إعداد صفحات الشعر الشعبي في صحف الدستور والفيحاء الحلية، وكان صوته مألوفًا عبر أثير إذاعة بابل في برنامجه الشهير بستان الشعر الشعبي، الذي استمر لعشر سنوات، كما قدّم برنامج أغاني للوطن والناس من اذاعة اتحاد الشعب في بابل، مستنهضًا الذاكرة الجمعية، وموثقًا محنة الوطن وتطلعاته.
يعدّه بعض النقّاد من الجيل الذي لم يكتب الشعر الشعبي بوصفه تسلية لغوية، بل بوصفه مشروعًا ثقافيًا توثيقيًا. كتب عنه الدكتور صباح نوري المرزوك في أكثر من موضع، معدّدًا إسهاماته الفكرية والتنظيمية، معتبرًا إياه من روافد النهضة الثقافية في الحلة، إذ جمع في شخصيته بين الشاعر والباحث والمنظّم الثقافي. كما ينظر إليه كثير من النقاد كواحد من الأصوات المخلصة للبيئة الشعبية، التي تمكّنت من أن تحوّل التراث من ذاكرة شفاهية إلى مادة مكتوبة ومؤرشفة.
ويرى البعض أن تجربة الجبوري تمثّل مثالًا حيًّا للكتابة التي لا تنفصل عن حياة الناس، فهو لم ينعزل في برجٍ ثقافي، بل ظلّ يكتب من عمق المكان، ومن نبض أهله، مستشهدًا بمؤلفه المواكب الحلية الذي يعد دراسة ميدانية متميزة لوظيفة المواكب الحسينية في مدينة الحلة، بعيدًا عن الخطاب التقليدي، ومقتربًا من السوسيولوجيا الشعبية في أفضل تجلياتها.
ويشير آخرون إلى أن شعره في ديوانيه الخلود وضمير أبيض يتسم بوضوح العاطفة ونبل الموقف، وأنه لا يتورّع عن مناجاة الوطن في أحلك ظروفه، حيث تظهر مفرداته كأنها خيوط من حرير منسوج على منوال الوجع العراقي المزمن.
أسهم الجبوري بفعالية في الحياة الثقافية، من خلال مشاركاته في مهرجانات عراقية وعربية، وتنظيمه لمهرجانات نوعية بالشراكة مع وزارة الثقافة، كما تولّى أدوارًا قيادية في المؤسسات الثقافية، فكان عضوًا في اتحاد أدباء وكتاب بابل، ونائبًا لرئيس اتحاد الشعراء الشعبيين، ورئيسًا لجمعية البيت العراقي للشعر الشعبي.
كما أصدر مذكراته عن حرب تشرين 1973، متناولًا تجربته كضابط عراقي، كاشفًا عن جانب آخر من شخصيته التي شهدت التحولات العاصفة في تاريخ البلاد، دون أن تنكفئ عن واجبها التوثيقي.
ولا تزال كتبه القادمة مثل شخصيات وأماكن المنتظر صدورها، توحي بأن الجبوري لم ينهِ مهمته بعد، بل لا يزال حاملًا لمسؤولية كتابة التاريخ الشعبي للعراق، من نسيجه الحقيقي، لا من زيف الرواية الرسمية.
في زمنٍ تشوّشت فيه الأصوات، ظلّ حامد كعيد الجبوري وفيًا لصوت الناس، لذا بَقِيَ حاضرًا، لا بالشهرة العارضة، بل ببصمة الروح العميقة. وهو أحد أولئك الذين كلّما تقادمت أعمارهم، ازدادوا شبابًا في ذاكرة الناس، لأنه كتب من أجلهم، لا من أجل المديح العابر.