حديقةُ العقول وظلمُ القالبِ الواحد

حديقةُ العقول وظلمُ القالبِ الواحد

من الظلم الذي يمارسه بعض المربين اختزال
العبقريةُ في دفتر علامات، ويُقاس التفرّدُ بسرعة الإجابة لا بعمقِ السؤال، ويُقصى من لا يحفظ كمن
لا يفهم.
ذلك هو الظلمُ الخفيُّ الذي يستوطن كثيرًا من البيوتِ والمدارس.
وفي لحظة من لحظات
التطور ، انبعثت نظريةٌ نقضت المألوف، وحرّرت التربية من سطوة القوالب:
“الذكاءات المتعددة”، تلك التي همست بما جهرَت به الحياةُ طويلاً:
الناس ليسوا أغبياء، بل مختلفون.
إنّ العقل البشري ليس صندوقًا نمطيًا، بل حديقةٌ رحبة، تتماوج فيها البذور، وتتمايز فيها الأزهار، ولكلّ زهرةٍ ضوءٌ وماءٌ وزمن، ولكلّ غرسٍ عينٌ تحنو ويدٌ تسقي وقلبٌ يُؤمن بثمرته.

والأروع أن الإنسان لا يُولد بذكاءٍ يتيم، بل يحملُ في داخله مجموعة من القدرات، تتفاوت وتتشابك، تنتظر لحظة صدق، أو نظرة مربيّ تُنيرُ دهاليزها.

وقد أحصت النظرية ثمانية ألوانٍ من الذكاء، وهي:
1- الذكاء اللغوي:
قدرةٌ على تطويع اللغة، سحر في البيان، وقوةٌ في التأثير والإقناع.
2- الذكاء المنطقي الرياضي: عقلٌ يعشق النظام، يهوى الأرقام، ويحترفُ الاستنتاج والتحليل.
3- الذكاء البصري الفضائي: خيالٌ يتشكّلُ صورًا، يقرأ الشكل والظلّ والفراغ، ويرسمُ العالم بلغة الفنّ.
4- الذكاء الجسدي الحركي: جسدٌ يُفكر، حركةٌ تعبر، مهارةٌ تُتقن الأداء والعرض والإنجاز
5- الذكاء الاجتماعي: فهمٌ دقيقٌ للنفوس، إحساسٌ بالمشاعر، وذكاءٌ في التعامل مع الآخر.
6- الذكاء الذاتي: عمقُ إدراكٍ للذات، بصيرةٌ بالمشاعر، وحكمةٌ في اتخاذ القرار.
7- الذكاء الطبيعي: ألفةٌ مع الأرض، حُبٌّ للمخلوقات، وفهمٌ صامت لأسرار الخليقة.
8- الذكاء الوجودي (قيد البحث): تساؤلاتٌ كونية، تأملٌ في معنى الحياة، وبحثٌ عن الغاية والمآل.

وقد يجمع الطفل بين أكثر من بذرة نبوغ: فصيح اللسان، محبوب الحضور، رشيقُ الجسد والبصيرة.
وما عليك إلا أن تكتشف، فالمربي العظيم لا يُرغم العقول على طريقٍ واحد، بل يُنصت لنداء الروح، ويهتدي بميول الطفل
لا بخريطة المدرسة.
وهكذا كان رسول الله يضع الرجل المناسب في الموضع الأليق، يعطي الفتى مقامه وإن جاوزَ الكبار، لأنه كان يرى بالبصيرة، لا بشيب الشعر.
فلِمَ نحاول قولبة الأرواح في قالبٍ واحد؟
لماذا نُصرّ أن تنبتَ الحقول كلها شجرةً واحدة، تُسقى بماءٍ واحد، وتُقطف في موسمٍ واحد؟

إنّ التربية الحقّة ليست صناعة نسخ، بل إحياء نفوس.
ليست إنتاج قوالب، بل غرس بساتين.
ربما في بيتك نابغة، لكنه يضيء من نافذةٍ لم تفتحها بعد.

أحدث المقالات

أحدث المقالات