احموا الاقليات… والا فلن تنعموا بالسلام ابدا

احموا الاقليات… والا فلن تنعموا بالسلام ابدا

من بديهيات بناء الدولة الحديثة ان لا امن ولا استقرار ولا عدالة حقيقية يمكن ان تتحقق في غياب الحماية الفعلية لحقوق الاقليات. فالدولة التي تعجز عن صون حياة وحرية ابنائها الاكثر هشاشة، سواء من الناحية الدينية او العرقي
ة، هي دولة مهددة بانفجار داخلي، عاجلا او اجلا.
ولنأخذ المأساة الايزيدية مثالا صارخا لهذا الواقع. فعلى مدى عقود، عانى الايزيديون من التهميش والتضييق والحرمان من ابسط حقوقهم، حتى بلغ هذا الظلم ذروته في آب من عام ٢٠١٤، حين اجتاح تنظيم داعش قضاء سنجار وارتكب واحدة من ابشع جرائم الابادة الجماعية في القرن الحادي والعشرين. ذبح الاف الرجال، وسبيت الاف النساء، واحرقت القرى، وفجرت المزارات، ونهبت الممتلكات. كل ذلك جرى في غياب تام لمؤسسات الدولة، وبتواطؤ ومشاركة عدد كبير من افراد العشائر والقرى المجاورة لمناطق الايزيديين في ارتكاب هذه الجرائم.
لقد ظن الذين ساعدوا داعش او سكتوا عن جرائمه ان الشر سيتوقف عند حدود الايزيديين، وانهم بذلك يحمون انفسهم او يربحون شيئا من الدنيا او الاخرة. لكنهم سرعان ما ادركوا ان الظلم اذا انفلت من عقاله لا يميز احدا، وان من يرضى للآخرين بالذبح سيذبح لاحقا بنفس السكين. فخسروا مدنهم، وذاقوا مرارة النزوح، وباتت داعش التي دعموها تنهشهم هم ايضا.
وما حدث خلال الايام القليلة الماضية مع الدروز في سوريا كان صفحة جديدة من كتاب الابادة الذي لم يغلق بعد. فالمكون الدرزي، الذي لطالما سعى الى الحياد والتوازن، تعرض في السويداء للقتل والذبح واشد انواع القمع وامتهان الكرامة، على يد جماعات متطرفة محسوبة على حكومة الشرع وجيش الشرع، الذي يضم في صفوفه عشرات الفصائل المتشددة.
التقارير المؤكدة اشارت الى تنفيذ اعدامات ميدانية بحق عشرات الشبان الدروز، واعتقالات جماعية، واقتحامات لقرى آمنة، واهانات ممنهجة، وصلت الى حلق الشوارب التي تعد لدى الدروز رمزا مقدسا يعادل المس بالروح. كل ذلك جرى وسط صمت محلي ودولي مخز، عدا دولة واحدة تدخلت بقوة لصالح الدروز، وانقذتهم من ابادة محققة. هذا المشهد اعاد الى الاذهان اللحظات السوداء التي رافقت غزو داعش لسنجار قبل احد عشر عاما.
هذان النموذجان، الايزيديون والدروز، ليسا سوى مثالين حيين على خطورة التغاضي عن معاناة الاقليات، وخطورة جعل الدين او الطائفة مبررا لنفي انسانية الانسان، او انتهاك حياته وكرامته.
لقد ادرك العالم المتحضر، بعد قرون من الحروب الدينية والمذابح العرقية والتجارب القاسية، ان العدالة والامن والاستقرار لا يمكن ان تبنى الا على اساس صيانة حقوق الانسان، وصون كرامة الفرد، بغض النظر عن دينه او لونه او طائفته.
لقد توصل الغرب الى حقيقة بسيطة، مفادها ان امن الجميع لا يتحقق الا بحماية الاضعف، وان الدولة لا تبنى بالاكثرية العددية، بل بالعدالة الشاملة. ولهذا اصبحت مجتمعاتهم اكثر استقرارا، وانفتاحا، وجاذبية، وملاذا لكل من يفر من جحيم الشرق.
فهل سنتعلم من هذا الدرس؟ هل ستدرك القيادات السياسية والدينية والقبلية في الشرق الاوسط، وفي العراق وسوريا تحديدا، ان حماية الاقليات ليست منة ولا ترفا اخلاقيا، بل ضرورة وجودية؟ هل سيستوعبون ان من لا يحمي الايزيدي اليوم، لن يجد من يحميه غدا؟ وان من يسكت على اضطهاد الدروز، لن ينجو حين تصل النار الى بيته؟
العدالة لا تتجزأ، والحرية لا تقاس بالعدد، والكرامة الانسانية ليست قابلة للمساومة. احموا الاقليات، ليس فقط لانهم يستحقون الحماية، بل لان بقاءهم يعني بقاءكم، وكرامتهم هي صمام امان لكرامتكم. فان لم تفعلوا… فلن تنعموا بالسلام ابدا.

أحدث المقالات

أحدث المقالات